
ألعاب المصريين القدماء: من التسلية إلى الفلسفة والخلود
د. حسين عبد البصير

في أعماق الحضارة المصرية القديمة، حيث يتجلّى الفن والدين والعمارة في أعظم صوره، ثمة جانبٌ آخر قلّما يُسلّط عليه الضوء: ثقافة اللعب. فقد كان المصريون القدماء، إلى جانب نبوغهم في الفلك والطب والهندسة، يمارسون ألعابًا ذهنية وبدنية تُظهر شغفهم بالعقل والتخطيط والرمزية. لم تكن الألعاب وسيلة للهو فقط، بل كانت أيضًا مرآةً لفكرهم، وانعكاسًا لتصورهم العميق للعالم الآخر.
“السِنت”: لعبة الخلود
تُعتبر لعبة “السِنت” (Senet) واحدة من أقدم ألعاب الطاولة في العالم، وقد ظهرت منذ أواخر عصر ما قبل الأسرات، حوالي 3100 ق.م. وظهرت في مقابر النخبة، أشهرها مقبرة توت عنخ آمون، ما يدل على أهميتها الاجتماعية والدينية.
تتألف اللعبة من لوح يحتوي على ثلاثين مربعًا مرتبة في ثلاثة صفوف أفقية، وتُلعب بواسطة قطع مميزة لكل لاعب، بالإضافة إلى أدوات تُستخدم كالنرد لتحديد الحركات. لكن الأهم أن “السِنت” لم تكن مجرد لعبة تسلية، بل كانت تُجسّد رحلة الروح في العالم الآخر، حيث يمثل الفوز فيها انتصارًا رمزيًا على الموت وبوابة نحو الخلود.
“مِحن”: الأفعى والرمز
لعبة “مِحِن”، الأقدم من “السِنت”، تتميز بشكلها الفريد الذي يشبه أفعى ملتفة على شكل حلزوني. ارتبطت هذه اللعبة بالإله “مِحِن”، الذي كان يُعتبر حاميًا في العالم الآخر، وقد استُخدمت في سياقات طقسية وشعائرية.
كانت تُلعب باستخدام كرات وتماثيل صغيرة لأسود، ما يوحي بصراع رمزي بين القوة والحماية والخطر. ويُعتقد أن مجرى اللعبة كان يُحاكي رحلة الشمس أو الروح في طريقها إلى الأبدية.
ألعاب المهارة والبدن
لم تغب الألعاب الحركية عن المشهد المصري القديم. فقد وُجدت نقوش تُصوّر شبانًا يقومون بـ:
• التوازن على الأيدي.
• المشي على جذوع.
• القفز والمناورة.
وهذه الألعاب كانت تُمارَس في المهرجانات أو بين الفتيان كنوع من التدريب الجسدي والتحدي الرياضي، وربما كانت تُستخدم أيضًا في التدريب العسكري المبكر.
ألعاب العصا والقرص
من الألعاب الشائعة أيضًا ما يُشبه الرماية أو القذف، حيث كان اللاعبون يرمون أقراصًا أو عصيًّا خشبية نحو أهداف. وكانت هذه الألعاب تُمارس في الحقول أو الساحات، خاصة من قبل الأطفال والعمال، وتُظهر جانبًا من حب المصريين للتنافس وتنمية المهارات الحركية الدقيقة.
الحصى والنرد: بدايات ألعاب الحظ
ثمة دلائل على وجود ألعاب استخدمت أحجارًا صغيرة أو أدوات نردية الشكل، ربما كانت تُستخدم في ألعاب تقوم على الحظ والاحتمال. وعلى الرغم من أن قواعدها ضاعت، فإنها تمثل بدايات لما يُعرف لاحقًا بـألعاب الحظ والمقامرة، وتُشير إلى جانب مختلف من ترفيه المصريين القدماء.
الدُمى والطفولة
عُثر على عدد كبير من الدُمى الخشبية أو الفخارية في مقابر الأطفال، بعضها كان مزودًا بخيوط لتحريك الأذرع أو الأرجل، ما يدل على وعي المصريين بأهمية اللعب في تنمية خيال الطفل وشخصيته، منذ آلاف السنين. وكانت هذه الدمى تصوّر نساء، حيوانات، أو راقصات، مما يعكس بيئة الطفل وحياته اليومية.
اللعب بوصفه فلسفة حياة
لقد جسّد اللعب في مصر القديمة أكثر من مجرد لهو أو تسلية، بل كان أداةً تربوية، وروحية، وبدنية. من خلال “السِنت” و”مِحِن” وألعاب العصا والدمى، نكتشف حضارة عريقة آمنت بالعقل، وقدّرت الجسد، وتأملت المصير.
وفي زمننا المعاصر، لا يزال من الملهم أن نرى كيف سبق المصريون القدماء ألعاب اليوم في تقديم مفاهيم التخطيط، والرمز، والاحتمال، في قالب ممتع يحمل في طياته فلسفة حياة كاملة.