خطوة إلى النور في نفق العادات

صورة واتساب بتاريخ 1447 03 05 في 15.56.35 0b6c44cd

خطوة إلى النور في نفق العادات

بقلم الدكتورة/ لمياء موسى- لندن

صورة واتساب بتاريخ 1447 03 05 في 15.54.03 aa0662ee


تحيةً صادقة من القلب،
وكما اعتدنا معكم، دعونا نقترب اليوم من موضوع شائك تحيطه الألغام من كل جانب، موضوع يُثير الحيرة ويستدعي التأمل العميق… إنّه الطلاق.

تلك الكلمة التي تُثير في النفوس خوفًا ورهبة، حتى غدت كابوسًا تتوجّس منه الأسر وتخشاه النساء خصوصًا. ورغم ذلك، فإنّ في طيّاتها قد تكمن رحمة خفيّة وباب أمل لحياة جديدة طال انتظارها.

الطلاق ـ وإن بدا مرعبًا ـ ليس دومًا لعنة، بل قد يكون أحيانًا خلاصًا من جحيم، وانعتاقًا من قيد، وبدايةً لصفحة أكثر إشراقًا. هو معضلة اجتماعية كبرى، نعم، لكنه أيضًا قرار مصيري تتداخل فيه المشاعر بالقوانين، والتقاليد بالواقع، ليبقى واحدًا من أعقد القضايا الإنسانية التي تمسّ حياة الفرد والأسرة والمجتمع.

الطلاق هو الوجه الآخر للزواج، أو إن صحّ التعبير هو الضدّ الذي يكمله. فالزواج سنّة فطرية أودعها الله فينا، غير أنّ الإنسان كثيرًا ما يخطئ في الاختيار لأسباب شتّى يضيق المقام عن ذكرها. وعندما يتبيّن أنّ الاختيار لم يكن صائبًا، وأنّ الزيت لا يختلط بالماء مهما طال الزمن، يصبح لا بدّ من مخرجٍ يعيد للأمور توازنها الطبيعي، ويضع حدًّا لمعاناة لا تنتهي.

وليس في هذا الأمر بدعة، فكلّ الحضارات القديمة عرفت الزواج والطلاق بوصفهما عقدين مدنيّين يوثّقان ويُشرّعان، وقد أجازتهما لأسباب متعدّدة. والعرب قبل الإسلام عرفوا الطلاق بأشكاله المختلفة، ومنها “الظهار” الذي جاء الإسلام فيما بعد ليحرّمه. ثم جاء التشريع الإسلامي فوضع ضوابط دقيقة وأحكامًا عادلة تنظّم كلًا من الزواج والطلاق، على نحو يوازن بين الحقوق والواجبات، ويضمن للمرأة والرجل كرامتهما. وكذلك الحال في الشرائع السماوية الأخرى؛ فاليهودية أباحت الطلاق في حالات معيّنة، والمسيحية ـ رغم تشديدها على قدسية الزواج ـ لم تُغلق الباب كليًّا أمامه، وإن جعلته مقصورًا على ظروف ضيّقة.

إنّ الغرض من هذه المقدّمة أن نؤكد أنّ الطلاق ليس خطيئة، بل هو حق طبيعي، يقف إلى جانب الزواج كوجه آخر له. ففي أحيان كثيرة يكون الطلاق هو التصويب لذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه الزوجان حين دخلا في علاقة مليئة بالصراع والخلافات، حتى غدت الحياة المشتركة عبئًا لا يُطاق. عندها لا يكون الطلاق هدمًا، بل تصحيحًا للمسار، وفرصةً لاستعادة التوازن والبحث عن حياة أرحب وأكثر سلامًا.

غير أنّ العادات والتقاليد، وبخاصة في مجتمعاتنا الشرقية، جعلت من الطلاق نهايةً للحياة وختمًا بالعار لا ينمحي. والمرأة، بما أنّها الطرف الأضعف في معادلة الزواج، تتحمّل الوزر الأكبر من تبعاته. فالمجتمع قلّما يرحم المطلّقة، حتى وإن كان الرجل هو السبب الرئيس وراء الانفصال. بل على العكس، نجد أنّ الرجل كثيرًا ما يُحاط بالتفهّم والدعم، بينما تُلقى على المرأة كلّ سهام اللوم، وتُحاصر بوصمةٍ لا ترحم، فتغدو هي وحدها المذنبة في فشل العلاقة، مهما كانت براءتها واضحة.
ويرى المجتمع ـ وقد شهدتُ بنفسي حالات عديدة ـ أنّ الزواج من مطلّقة يحمل ما لا يُحصى من السلبيات. فإذا كان الرجل لم يسبق له الزواج، قامت الدنيا عليه ولم تقعد؛ تعاتبه الأم، ويقاطعُه الإخوة والأخوات، لمجرّد أنّه فكّر في الاقتران بامرأة شاء القدر أن تُطلَّق بعد فترة وجيزة من زواجها، لأسباب لم يكن لها فيها يد. بل والأغرب من ذلك، أنّ حتى المطلق أو الأرمل نفسه، الذي خبر مرارة التجربة، كثيرًا ما يترفّع عن الزواج من مطلّقة، وكأنّها وصمة عار تلاحقها إلى الأبد.

إنّه موقف يستدعي الضحك حدّ البكاء، من شدّة الانفصام الذي نعيشه. إذ تُعامَل المرأة كما لو كانت سلعة فقدت بريقها، تُجرَّد من إنسانيّتها وآدميّتها، ويُحكم عليها بعقوبةٍ اجتماعية لا تنتهي، فقط لأنّها لم تُوفَّق في تجربة زواج لم تكن وحدها مسؤولة عن فشلها.

تمشي المطلّقة بحذر، وتتكلّم بحذر، كأنّها تسير فوق أرضٍ ملغومة. تُفرَض عليها شروط قاسية تُثقِل كاهلها كإنسانة، وتُنتزَع منها أبسط حقوقها في العيش بكرامة. والأدهى من ذلك أنّ المرأة ذاتها، التي يُفترض أن تكون سندًا وعونًا لها، تتحوّل في كثير من الأحيان إلى أشدّ جلّاديها، فتزدريها، وتتنكّر لها، وتبتعد عنها، فتضاعف قسوةَ المجتمع عليها، حتى تغدو وكأنّها مصابة بداءٍ معدٍ لا شفاء منه.

وهكذا تجد المطلّقة نفسها معزولة، مطاردةً بالريبة والخوف، حتى من أقرب قريباتها، وكأنّها ارتكبت جريمة لا تُغتفر. وللهروب من هذا الحصار القاسي، قد تُدفع ـ مُكرهة ـ إلى الوقوع في الخطأ ذاته من جديد، فتقبل بزواجٍ لا يليق بها، فقط لتنجو من نظرات مجتمعٍ بلا عقل ولا منطق ولا قلب.

لكن السؤال الأهم: أين دور المؤسسات الرسمية والدينية والثقافية من هذه المعضلة الإنسانية؟
أين وزارة الإعلام والثقافة ببرامجها التوعوية وحملاتها الهادفة؟ وأين وزارة الشؤون الاجتماعية التي يُفترض أن تكون الملاذ الأول للمرأة في محنتها؟ وأين رجال الدين الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية تصحيح المفاهيم المغلوطة؟

وأين هي منظمات حقوق المرأة من كل هذا؟ أين أنشطتها، وورش عملها، ومشاريعها التوعوية التي يُفترض أن تُغيّر الثقافة وتعيد للمرأة شيئًا من حقها وكرامتها؟ ما نراه في الغالب لا يعدو كونه أعمالًا روتينية باهتة، أقرب إلى بيروقراطية حكومية فقيرة، بعيدة عن أي إنجاز ملموس على أرض الواقع.

إننا بحاجة إلى إعلام هادف يغيّر المفاهيم، لا إعلامٍ يلهث وراء سفاسف الأمور وقضايا شخصية تخص قلّة من الناس. وبحاجة إلى منظمات حقوقية تفتح أبواب الأمل، لا أن تكتفي بالشعارات. وبحاجة إلى وزارات وهيئات تتحرّك بالفعل، بدل أن تقف مكتوفة الأيدي.

فالمخرج لن يأتي بمعجزة من السماء، ولن تنزل الملائكة لتغيّر العقول. إن لم ننهض نحن بوعي حقيقي، ونبذل جهدًا صادقًا على أرض الواقع، فستبقى المرأة المطلّقة أسيرة الظلم، ويبقى المجتمع غارقًا في جهله. فالظلام لا يبدّده إلا النور، والجهل لا يمحوه إلا العلم والعمل.

دعونا نلقي نظرة سريعة على شعوب سبقتنا أشواطًا في دروب الحضارة والإنسانية. هناك، لا يُنظر إلى الطلاق باعتباره وصمة عار أو نهاية مأساوية، بل كجزء طبيعي من مسار الحياة الإنسانية. لا فرق لديهم بين رجل وامرأة؛ فكلاهما يمتلك الحق ذاته في تقرير مصيره واختيار حياته.

تحترم إرادة المرأة إن لم ترغب في الاستمرار مع زوجها، حتى لو كان السبب بسيطًا كفقدان مشاعر الحب. يرون أنّ من حقها أن تعيش حياةً راضية عنها. وكذلك الرجل، بما أنّه شريكها، يُنظر إليه باعتباره مسؤولًا عن سعادتها مثلما هي مسؤولة عن سعادته، فيبذل جهده ليكون عونًا لها، ويقتطع من وقته وعمله ليمنح عائلته الاهتمام الذي تستحقه. وهم لا يحمّلون فشل العلاقة لطرف واحد، بل يعدّونه مسؤولية مشتركة.

وحين يقع الطلاق، لا يُعامل كوصمة، بل كقرار إنساني قد يتّخذه أيّ من الطرفين. فلا يُعيَّر الرجل ولا تُحتقر المرأة. بل على العكس، يُقدَّم الدعم النفسي والاجتماعي لكليهما لمساعدتهما على التأقلم مع التغيّرات التي طرأت على حياتهما. أمّا فكرة السخرية من المطلّقة أو وسمها بالعار، فقد طواها الزمن عندهم منذ عقود طويلة.

هناك، يؤمنون أنّ لكل إنسان الحق في أن يعيش الحياة التي يرغبها، وأنّ احترام كرامة المرأة لا يقلّ شأنًا عن احترام كرامة الرجل. بل إنّ المجتمع ينظر بإيجابية للرجل الذي يهتم بزوجته ويمنحها مكانتها، فيُعدّ ذلك علامة على نضجه وإنسانيته، لا ضعفًا في شخصيته.

وفي ختام مقالي، أيها القرّاء الأعزاء، حاولت أن أجمع شتات نفسي في هذا الموضوع الشائك الذي يثقل واقعنا، غير أنّني ـ كما في كل مرة ـ أؤمن أنّ في نهاية النفق دومًا بارقة أمل. أملٌ في أن نعيد صياغة ثقافتنا، ونسترد إنسانيتنا من جديد.

صحيح أنّ العادات والتقاليد لا تتغيّر في ليلة وضحاها، لكنّنا قادرون على أن نضع لبناتها الأولى بخطوات ثابتة ومدروسة. وهنا يبرز دور الإعلام، ذلك الصوت الذي يسمعه الناس ويؤثر فيهم، ليحمل هذه القضية، وغيرها من القضايا التي يئنّ مجتمعنا تحت وطأتها، إلى دائرة الحوار الجاد. كما أنّ المسؤولية تقع على عاتق رجال الدين، ووزارات الشؤون الاجتماعية، والمنظمات الحقوقية، والهيئات المعنية بشؤون المرأة، لتعمل جميعها في خطة متكاملة، طويلة النفس، هدفها تغيير المفاهيم وإزاحة ركام الجهل بضياء العلم والوعي.

فكيف نكون “خير أمة أخرجت للناس” ونحن نرزح تحت وطأة عادات وتقاليد بالية لم ينزل الله بها من سلطان؟ إنّ مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، والبحر الواسع في أصله قطرات متفرقة تجمّعت فصارت محيطًا. كذلك هو طريق التغيير: خطوات صغيرة، لكن ثابتة، وعلى مدى عقدين من الزمن يمكن أن نصنع تحوّلًا عظيمًا يليق بنا وبأجيالنا القادمة.

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *