نجيب محفوظ في ذكرى الرحيل: الكاتب الذي لم يغادر

صورة واتساب بتاريخ 1447 03 06 في 00.21.08 996484c4

نجيب محفوظ في ذكرى الرحيل: الكاتب الذي لم يغادر

دكتور/ حسين عبد البصير- عالم آثار مصرية و مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية

صورة واتساب بتاريخ 1447 02 14 في 01.12.27 c7a8d493 Copy


في مثل هذه الأيام من عام 2006، غاب نجيب محفوظ عن عالمنا جسداً، لكنه لم يغادر أبداً حياتنا الثقافية والإنسانية. خمسة عشر عاماً وأكثر مضت منذ رحيله، وما زال اسمه يتردد كما لو أنه حاضر بيننا، يكتب رواية جديدة، أو يجلس على مقهى الحرافيش، أو يتأمل العالم بنظارته السوداء الشهيرة.

لقد كان محفوظ أكثر من مجرد كاتب روائي؛ كان ذاكرة وطنية تمشي على قدمين، وضميراً أدبياً وثقافياً عاش ليمثل مصر كلها: بتاريخها، بأحلامها، بأزماتها، وبقوة ناسها البسطاء.

رحيل الجسد وبقاء النص

حين رحل محفوظ، ارتفعت أصوات الحزن في مصر والعالم العربي، كأن مدينة كاملة فقدت أحد أعمدتها. لكن سرعان ما بدا واضحاً أن الكاتب الكبير لا يموت بالطريقة التي يموت بها الآخرون. كان قد ترك وراءه ما يكفي لأن يظل حيّاً: أكثر من خمسين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية، مئات الشخصيات، حارات كاملة صارت جزءاً من الذاكرة الجمعية. لم يكن رحيله نهاية، بل بداية لعصر جديد من حضوره المختلف.

محفوظ ومصر التي لا تموت

منذ بداياته، ارتبط محفوظ بمصر ارتباطاً عضوياً. كتب “رادوبيس” و”كفاح طيبة” مستلهماً التاريخ الفرعوني، ثم انغمس في الحارة الشعبية، وجعلها بديلاً عن “الوطن الكبير”. لم يكن مؤرخاً يسرد الأحداث، بل كان فناناً يحوّل التاريخ والاجتماع والسياسة إلى حكايات إنسانية خالدة.

كان يدرك أن مصر لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال ناسها البسطاء: بائع الترمس، الجزار، الموظف الحكومي، شيخ الأزهر، الصعلوك الباحث عن لقمة، والفتاة التي تحلم ببيت وزوج. في “زقاق المدق”، كما في “قصر الشوق”، وفي “اللص والكلاب”، كما في “الحرافيش”، نكتشف أن الرواية ليست مجرد فن جمالي، بل أداة لفهم المجتمع بكل تناقضاته.

كاتب التوازنات الكبرى

نجيب محفوظ عاش في مصر التي عرفت الملكية، ثم ثورة يوليو، ثم الانفتاح، ثم عواصف الثمانينيات والتسعينيات. ومع ذلك، لم يكن صوتاً دعائياً لهذا النظام أو ذاك، بل كان أصدق تمثيل لتوازن معقد: بين التراث والحداثة، بين الدين والدولة، بين الفقر والسلطة، بين أحلام الناس الصغيرة وأحلامهم الكبيرة.
هذا التوازن جعله ينجو من محاولات التوظيف السياسي، وظل محتفظاً بمكانته ككاتب وطني شامل، لا يتقيد بحدود أيديولوجية ضيقة.

جائزة نوبل وما بعدها

عام 1988، حين أعلن فوزه بجائزة نوبل، لم يكن ذلك تكريماً لكاتب فرد فقط، بل اعترافاً عالميّاً بمكانة الأدب العربي كله. ومع ذلك، لم يغيّر محفوظ حياته. ظل يسير إلى مقهى “علي بابا”، يجلس مع أصدقائه، ويتحدث ببساطة شديدة. ربما كانت تلك البساطة سر عبقريته؛ فهو لم يكتب من برج عاجي، بل من قلب الناس، وبأدوات مألوفة، لكن بأفق إنساني لا حدود له.

جرح الطعنة ودرس التسامح

الطعنة التي تلقاها عام 1994 لم تكن محاولة اغتيال لجسد محفوظ فقط، بل كانت محاولة لاغتيال حرية الفكر والإبداع. لكنه، بعد أن نجا، لم يحمل ضغينة، بل غفر للشاب الذي حاول قتله. كان ذلك الدرس أكبر من كل كتبه: أن التسامح أقوى من الحقد، وأن الكاتب الحقيقي لا ينتقم، بل يظل وفياً لفكرته عن إنسانية الإنسان.

بعد الرحيل… حضور آخر

اليوم، حين نزور متحفه في تكية أبو الذهب، أو نقرأ رواياته بطبعات جديدة، أو نشاهد أفلامه على الشاشات، ندرك أنه لم يغادرنا. بل ربما صار أكثر حضوراً بعد غيابه؛ لأن الموت لا يطال الكبار. لقد صار محفوظ جزءاً من الوجدان، مثل القاهرة نفسها: قد تتغير ملامحها، لكنها تظل هي هي.

كلمة أخيرة

في ذكرى رحيل نجيب محفوظ، لا نتذكر كاتباً عظيماً فحسب، بل نتذكر معنى أن يكون للثقافة أبٌ روحي. لقد عاش الرجل حياة متواضعة، لكنه كتب أدباً سيظل خالداً مثل الأهرام، ومثل النيل. وإذا كان الموت قد أخذ جسده، فإن نصوصه وأبطاله وابتسامته الهادئة ستظل بيننا، تقودنا من زقاق إلى آخر، ومن حلم إلى حلم، إلى أن ندرك أن محفوظ لم يمت، ولن يموت.

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *