
" موسيقى عالية ونغمة مفقودة"
بقلم الدكتورة/ لمياء موسى- لندن

في مساء هادئ اجتمعنا في مقهى أنيق، يلمع بأضوائه الناعمة وتفوح منه روائح القهوة والعصائر الطازجة. جلستُ برفقة بعض الأقارب والصديقات. طلبتُ عصير الجوافة الذي أحبّه، بينما انشغل الآخرون بتجربة نكهات غريبة؛ عصائر ممزوجة بالآيس كريم وألوان من المكسّات لم تَرُق لي يومًا.
ارتفعت موسيقى المكان فجأة، حتى صارت الكلمات الغنائية أقوى من أصواتنا. تبادلنا النظرات في حيرة وضحكات صغيرة، ثم سرق انتباهنا المشهد القريب: عند الطاولة المجاورة جلست فتاة يافعة في العشرينيات، وإلى جانبها شاب يشاركها الضحك والهمس. كنا نتابع تفاصيلهما بشغف خفي.
قال أحد الجالسين معنا:
– تراه ماذا يهمس في أذنها؟
أجبته مبتسمة:
– ربما وعدٌ، وربما كلمة عابرة صنعت في قلبها هذا الضحك الطفولي.
وفجأة أخرج الشاب خاتمًا صغيرًا، ألبسه في يدها بخفة، ليأتي النادل بعد لحظات حاملًا قالب حلوى وعليه شموع مضيئة. أدركنا أنه عيد ميلادها، واشتعل فضولنا أكثر.
لكن شيئًا في داخلي كان يتمرد على هذا المشهد. رغم الزينة والضحكات والأنغام، لم أرَ فيه ملامح الحب الحقيقي. كان أشبه بلهيب البدايات، اندفاع اللقاء الأول بين رجل وامرأة، لا أكثر. كانت الطاولة تغص بالأطباق والمشروبات، والطلب لا ينقطع. لكن… كيف يجتمع الحب الجارف مع هذه الشهية المفتوحة؟ كنتُ أؤمن أن العاشق الحقيقي ينسى الطعام، لأنه يرتوي من وجود محبوبه ويكتفي بنظراته.
التفتُّ إلى صديقتي وهمست:
– الحب الصادق لا يحتاج إلى كل هذا الصخب.
ابتسمت وسألتني:
– وكيف يكون برأيك؟
أجبتها بثقة وهدوء:
– الحب الحقيقي لا يفتش عن أماكن مزدحمة ولا موسيقى عالية، إنه يسكن في الهدوء، في السكينة، في نظرة مطمئنة وصمت مشترك. حتى لو جلسا في مكان مهجور سيبدو لهما جنة عدن على الأرض. يكفي أن يجلسا جنبًا إلى جنب… فهذا وحده غذاء للروح وارتواء للقلب.
ظللتُ أتابعهما حتى النهاية. ضحك مرتفع، حركات مبالغ فيها. لم يكن ذلك الحب الذي أومن به. انشغلت بالحديث مع صديقاتي، بينما بقيت الموسيقى تعلو في أرجاء المقهى، يرافقها صخب الكلام وضجيج الطاولات المتقاربة، مع دخان يزحف من موائد أخرى. كل ذلك ضايقني، فطلبت منهم أن نغادر. لكنهم اعترضوا:
– الجو جميل الليلة، ابقي معنا، دعينا نستمتع قليلًا.
استسلمت تحت إلحاحهم، فمرّت ساعة، ثم دخلنا في ساعة ثانية، حتى ازدحم المكان أكثر، وارتفعت الموسيقى حتى صارت تخترق الجسد. كان الدخان يتصاعد من كل صوب، وأنا أراقب في داخلي كيف أننا نُثقل الجهاز العصبي بكل هذه المنبّهات: موسيقى صاخبة، أغنيات متلاحقة، قهوة وشاي في ساعة متأخرة من الليل، دخان يملأ الصدور… خليط خانق يرهق الروح قبل الجسد.
وفجأة دوّى صوت من الطاولة المجاورة، صوت الفتاة التي رأيناها سابقًا مع ذلك الشاب:
– أنت كذّاب!
ارتفعت نبرتها، فردّ عليها بهدوء متوتر:
– لا ترفعي صوتك!
قالت بعناد:
– سأرفع صوتي كما أشاء!
وبلمح البصر انقلب المشهد؛ سكبت كأس الماء البارد على قميصه، فاشتعل غضبه، وراح يشتمها بألفاظ بذيئة. دفعت الكرسي بقوة حتى وقع أرضًا، بينما سارع الناس في المقهى إلى التصوير كأنهم أمام مشهد سينمائي مثير.
لم أتفاجأ بما جرى، كنت أراه متوقعًا. لأن الحب الذي يقوم على المظاهر والضجيج لا يملك أن يصمد أمام أول عاصفة. فالحب ليس في الهدايا الغالية، ولا في الأماكن المزدحمة المليئة بالصخب، ولا في تكرار كلمة “أحبك” آلاف المرات. الحب، في جوهره، أصدق من ذلك بكثير.
الحب في نظري هو شعور بالارتياح، بالأمان، أن تجد نفسك مع الآخر حتى في أبسط الأماكن وأفقرها. أن تتقاسم معه وجبة متواضعة، فتشعر وكأنك تأكل أشهى الأطعمة. الحب الحقيقي لا يحتاج إلى استعراض، ولا إلى شهادات مزخرفة.
أما ذلك الحب المرهون بالهدايا والإنفاق المبالغ فيه، فإنه سرعان ما ينقلب إلى ساحة تبادل للاتهامات والتجريح، كلٌّ يعيّر الآخر بما قدمه له، فتتحول “أحبك” إلى جملة هزلية لا تليق بروعة الحب.
فالحب الحقيقي هو طيران بلا أجنحة، وفرحة لا تنقطع، فرحة تُشبع الروح وتُجدّد الطاقة باستمرار، حتى إذا ارتويت منه ازددت عطشًا إليه. لا مكان له ولا زمان، ولا يعرف حدودًا، كل ما يهمك فيه أن ترى وجه الحبيب، فتغمر المكان طاقته، ويملأ عبيره الفؤاد سعادة.
هو شفاء لأوجاع الجسد، وترياق لجراح القلب، وهو الصفاء الذي ينقّيك من كل الشوائب، والغسل الذي يطهّرك من كل الآثام. طاقته قادرة على بعث الحياة في الخلايا، وفرحته تغنيك عن زاد الجسد وشرابه. ومعه لا حاجة إلى طبيب، ولا إلى مؤنس، ولا إلى سند؛ فالمحب وحده يصبح عالمًا كاملًا، يختصر الوجود بأسره في حضوره.
هو حضور آني للحظة ممتدة، لحظة تُغنيك عن كل شيء، فلا تشعر بمرور الوقت وكأنك خارج إيقاع الزمن. التماهي الكامل مع من تحب، حتى أنك لا تعطر نفسك إلا به، ولا تدرك وجودك إلا معه.
قوة غامرة تتجسد في الواقع بطاقة متناغمة؛ تموت في عين الرجل كل نساء العالم، وتموت في عين المرأة كل الرجال. إنه طاقة داعمة، قادرة على تحقيق المستحيل، وشعور بالانسجام العميق والاتحاد الصادق.
مع الحب الحقيقي ترى القبيح جميلًا، ويزداد الجميل جمالًا. يفتح فيك أبواب الرحمة والتعاطف، يقربك من الناس جميعًا، يجدد فيك إنسانيتك، ويمحو عنك أثقال الأنا. معه تدور في فلك المحبوب من عظم طاقته الجاذبة، كما يدور الكوكب حول الشمس. يترك غيابه فراغًا يشبه فقدان الروح من الجسد.
هو توأمة الأرواح، اتحاد لا تفسره الكلمات، لأنه ليس نصًا يُكتب، ولا فكرة تُشرح، بل هو تجربة خُلقَت ليُعاش جمالها، لا ليُوصف.
الحب يا صديقاتي… أبسط من كل هذا بكثير، وأصدق من أن يُختزل في صخب مقهى أو خاتم يُلبس على عجل. الحب طمأنينة وسكينة، يكفي أن يُشعرك الآخر أنك وجدت ذاتك بقربه، بلا مظاهر ولا أقنعة.