
معادن البشر في وقت المحن والأزمات
بقلم الكاتبة/ فاطمة قوجة- الإمارات

تعطي الأزمات الطريق لنرى ما إذا كنا بحاجة أنفسنا أم نحن نريد رؤية الحقيقة…
الحياة محطات
تقودنا إلى طريق لا يمكننا أن نراه إلا بعد مرورنا بالأزمات والمحنّ
لأنهُ بكل بساطة المحن هي دليل الوضوح
الشدائد تكشف حقيقة الأشخاص
وتُظهر أخلاقهم وصفاتهم الجوهرية
فأما أن يكون الشخص معدنهُ جوهري
وأما أن يكون مُقنع يخفي حقيقته وراء وجه مستعار
لا نعرف حقيقته إلا وقت الشدة..
الشدائد ليست فقط محطات ألم، بل هي محكّ حقيقي للنفوس. ومن الحكمة أن يتأمل الإنسان فيمن حوله أثناء الأزمات، ليعرف من يستحق أن يُبقيه قُربه، ومن لا يصلح حتى للظل.
اكتشاف معادن البشر في وقت المحن والأزمات
في مسيرة الحياة، لا تخلو الطريق من العثرات والمنعطفات الصعبة التي تختبر الإنسان على كافة المستويات، نفسياً، اجتماعياً، وأخلاقياً. وعندما تحل المحن والأزمات، تظهر وجوه جديدة لم نكن نعرفها من قبل، رغم أنها كانت قريبة منا. ذلك لأن المحن لا تصنع الأشخاص، بل تكشف حقيقتهم. وكما يُختبر الذهب في النار، يُختبر الإنسان في الشدة، فـ”وقت الشدة تعرف الصديق من العدو، والمحب من المتظاهر بالمحبة.
حقيقة الإنسان تُكتشف في الضيق
قد يبدو الجميع صالحين في وقت الرخاء، حيث الابتسامات لا تُكلف شيئًا، والمواقف لا تحتاج تضحية. لكن حين تضيق الدنيا بأحدهم، تظهر معادن من حوله: من يمد له يده، ومن يُشيح بوجهه. بعض الأشخاص يبرقون في الأوقات السهلة، لكن سرعان ما يخفت بريقهم عندما يطلب الموقف صبراً، مروءة، أو دعماً حقيقياً. وفي المقابل، هناك من لا يظهر معدنه الثمين إلا في الأوقات الحالكة، فتجده يقف وقفة تخلّدها الذاكرة طويلاً.
الأزمات تكشف لا تفضح
ليس الهدف من الأزمات فضح الناس، بل كشف الحقيقة، وتمييز من يستحق الثقة والصداقة والمرافقة في الطريق. فالمواقف الصعبة تعمل كمرآة صافية، تُظهر ما لم يكن واضحًا من قبل. وهذه المعرفة، رغم قسوتها أحيانًا، نعمة. فهي تُتيح لنا أن نُعيد تقييم علاقاتنا، ونبنيها على أسس من الوفاء والتجربة، لا المجاملة والمظاهر.
دروس من الشدائد
لا تمر المحن دون أن تترك وراءها دروسًا بالغة الأثر. من أعظمها أن الإنسان لا يُقاس بكلامه، بل بمواقفه. كما أن القيمة الحقيقية للعلاقات لا تظهر في عدد اللقاءات أو المجاملات، بل في اللحظات التي نكون فيها في أمسّ الحاجة إلى من يقف معنا، ولو بكلمة صادقة أو دعم بسيط.
كذلك، تُعلمنا الأزمات أن نُراجع أنفسنا، كما نُراجع من حولنا. فربما نكون نحن أيضاً قد خذلنا غيرنا دون قصد في أوقات سابقة. وهذا يدعونا لأن نكون أكثر وعيًا، وحرصًا على أن نكون ممن يُعتمد عليهم لا ممن يُخشى خذلانهم.
اكتشاف معادن البشر في وقت المحن والأزمات
تمرّ على الإنسان في حياته لحظات لا تُنسى، ليست لأنها جميلة، بل لأنها كانت ثقيلة على القلب، قاسية على النفس، وكاشفة لوجوهٍ كثيرة لم يكن ليتصور حقيقتها. المحن ليست مجرد أوقات ضعف أو فقدان، بل هي كالمرآة النقية التي تُظهر لنا من نحن، ومن حولنا، بكل وضوح.
يقولون: “الشدائد تُعلّم الإنسان من يكون، وتُعلّمه من معه.” وهذا القول ليس مبالغة، بل هو عين الحقيقة.
حين تضيق بك الدنيا… من يبقى؟
كثيرًا ما نسمع عن صديقٍ خذلك، أو قريبٍ اختفى حين احتجته، أو حتى أخٍ تخلّى عنك حين ضاقت بك الحياة. والعكس كذلك، نسمع عن شخصٍ لم تكن تتوقع منه شيئًا، فإذا به يقف معك وقفة لا تُنسى.
مثلاً:
• رجلٌ فقد عمله فجأة، فغرق في ديونٍ وهموم. انتظر أن يسانده أصدقاؤه الذين طالما سهر معهم وضحكوا معًا، فإذا بهم لا يردّون على اتصالاته. بينما زميل عمل قديم، لم يكن مقربًا، مد له يد العون دون أن يُسأل.
• أرملة شابة، تُوفي زوجها فجأة، وترك لها أطفالًا صغارًا. أقاربها كثر، لكن قليل منهم زاروها، وأقلّ من ذلك من سأل عن أطفالها أو قدم لها دعمًا. بينما جارتها العجوز، التي لا تملك الكثير، كانت تحضر لها الطعام، وتُشغل الأطفال، وتُمسك بيدها في لحظات الانهيار.
• وهناك شابٌ مرض فجأة، وبات في حاجة للمال لإجراء عملية. العشرات ممن كان يسهر معهم ويشاركهم أسراره، تغافلوا عنه. بعضهم قال: “لا أملك.” وبعضهم تجاهل الأمر. لكن صديق طفولته، الذي لم يره منذ سنوات، تواصل معه وشارك نداءه، وساهم وساعد دون أن يُطلب منه.
الشدائد تُغربل الناس في وقت الرخاء، يكون الناس كأوراق الشجر؛ خضراء، متشابهة، كثيرة. لكن حين تهبّ الرياح، تتساقط الأوراق اليابسة، وتبقى تلك المتجذرة.
كثيرون يشاركونك فرحك… لكن من يشاركك حزنك؟
كثيرون يصفقون لنجاحك… لكن من يُواسيك حين تسقط؟
كثيرون يُجاملونك… لكن من يُحبك بصدق؟
كل هذه الأسئلة تجد لها إجابة واحدة في وقت الشدة.
لا تنخدع بالمظاهر.
كثير من الناس يُجيدون الكلام الحلو، يُجيدون تقديم أنفسهم على أنهم أوفياء، مخلصون، أهل مروءة. لكن الواقع يُثبت العكس حين تُختبر هذه الكلمات. المحنة تُسقط الأقنعة، وتكشف من كان بجانبك فقط لمصلحته، ومن كان يحبك لذاتك.
أحيانًا تكتشف أن أقرب الناس إليك لا يستطيع أن يتحمل لحظات ضعفك، وأن البعيد عنك جغرافيًا أقرب إليك وجدانيًا من كل من حولك.
أزمة تساوي ألف درس
يقولون: “ضربة واحدة على المعدن، تُظهر صلابته أو هشاشته.” وكذلك الناس.
• شخصٌ يتركك في منتصف الطريق… هذا درس.
• شخصٌ يدعمك دون مقابل… هذا كنز.
• شخصٌ يتغيّر عليك حين تتغيّر ظروفك… هذا اختبار.
• شخصٌ يتصل ليقول فقط: “أنا هنا لو احتجتني”… هذا معدن أصيل.
كل موقف تمرّ به وأنت في ضيق، يُخبرك من تستحق أن تحزن عليه، ومن لا يستحق حتى ذكراك.
المحنة تكشفك لنفسك أيضًا
ليست فقط الناس من تُكشف في الأزمات، بل أنت أيضًا. قد تظن أنك ضعيف، فإذا بك تصبر على ما ظننت أنه لا يُطاق. قد تكتشف في نفسك قوة لم تكن تعرفها. وقد تُدرك أنك لا تحتاج لمن خذلك، وأنك قادر على النهوض من جديد، لكن بقلبٍ أكثر حذرًا، وعينٍ تميّز الخبيث من الطيب.
قال النبي ﷺ:
“(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.” (
رواه مسلم
في الختام:
ليست كل خسارة شرًا، وليست كل محنة نقمة. أحيانًا تأتي الأزمات لتُزيح عنك من لا يستحقك، ولتُقرّب إليك من هو نقي القلب، صادق النية. لا تحزن حين ترى بعض الوجوه تتغيّر، ولا تنصدم حين يخذلك من وثقت به. فهذه طبيعة الحياة: الناس معادن، لا يُعرف خالصها من زائفها إلا عند الاحتراق.
وكل مرة تتألم فيها من موقف، تذكّر أن الله أزاح عنك قناعًا، وأهداك وعيًا. فالشدائد مدرسة، والدروس لا تُنسى.
عند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان..