أوطان من الغياب

صورة واتساب بتاريخ 1447 03 20 في 06.57.23 352182c9

أوطان من الغياب

 

بقلم الأستاذة/ ذكرى زيد – الأردن 

صورة واتساب بتاريخ 1447 03 20 في 06.58.54 1e507061


لم يخطر لي أن الغياب قد يسرق ملامح الأيام بهذه الطريقة. كنتُ أظن أن القرب كافٍ ليبقى، وأن ما بيننا أكبر من أن تنال منه المسافات. لكن الحقيقة أثقل مما ظننت؛ فما إن انقطع الطريق حتى تكسّر داخلي شيء لا يُجبر.


ما زلتُ أستحضر وجهًا أعرف تفاصيله عن ظهر قلب؛ صورة لا تغادر مخيلتي، ضحكة صغيرة تنبت في صدري كزهرة، ونظرة تحمل معنى لم تقدر عليه الكلمات يومًا. في ذاكرتي، يطلّ المشهد نفسه كل صباح؛ السابعة موعد المغادرة، بخطواتٍ مألوفة تحمل جدية العيش وسرعة الوقت. والرابعة، لحظة العودة المثقلة، لكن ببريقٍ خاص لا يخفت. والخميس… آه من الخميس، كأنه كان ممهورًا بلينٍ مختلف، بدوامٍ متأخر يترك فسحة أوسع لأتخيله حاضرًا.


أشتاق إلى حديثٍ كان يسرق الساعات منّا بلا شعور. مكالماتنا لم تكن مجرد أصوات، كانت حياة كاملة تتنفس بيننا. ضحكٌ متشابك، صمتٌ عميق، وطمأنينة تُشبه حضنًا غير مرئي. واليوم، لا يبقى لي سوى الصدى؛ حروفٌ مكسورة تتردّد في داخلي وتذوب في فراغٍ لا يُسد.


كل شيء من بعده صار ناقصًا؛ الأيام رمادية، التفاصيل باردة، حتى نفسي لم تعد كما كانت. أعيش غربةً لا يفهمها أحد، غربةً تسكنني لا أستطيع منها خلاصًا. ولعل أصعب ما في الغياب أنه يجعلني أُعيد ملامحه مئة مرة في خيالي، كأنّ التذكر هو الطريقة الوحيدة لئلا أنسى.


وأكتب الآن لا لأعيده، ولا لأستنطق الغائب، بل لأعترف: إن هناك حضورًا لا يُمحى بالغياب، وإن ثمة وجوهًا لا تموت حتى لو لم نرها.


أما الحقيقة التي لا أهرب منها، فهي أنني ما زلتُ أعيشك كما لو كنت هنا؛ أراك في السابعة حين تغادر، وفي الرابعة حين تعود، وأسمعك في الصمت أكثر مما أسمعك في الكلام. الغياب لم يُبعدك، بل جعلك أعمق في داخلي، حتى صرتَ جزءًا مني، لا يغيب إلا إذا غبتُ أنا عن الحياة.


مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *