
المظاهر خادعة
بقلم الكاتبة/ فاطمة قوجة- الإمارات

“لا تحكم على الكتاب من غلافه”
يمكن للمظهر أن يكون خادعًا.
الجوهر
الأخلاق
والمعاملة
عوامل تحدد قيمة الإنسان.
المظاهر خادعة: لا تحكم على الكتاب من غلافه
في عالمنا اليوم، أصبح الحكم على الآخرين من خلال مظهرهم أمرًا شائعًا ومُقلقًا في الوقت ذاته. نرى شخصًا بملابس معينة فنفترض عنه أشياء قد لا تكون صحيحة، أو نلتقي بإنسان يحمل ملامح أو سِمات خارجية فنضعه فورًا داخل “قالب” جاهز صنعه المجتمع.
على سبيل المثال، قد يُنظر إلى السيدة المحجبة على أنها بالضرورة متديّنة، أو إلى الشاب ذي اللحية بأنه ملتزم دينيًا، بينما يُعتبر من يرتدي النظارات مثقفًا، ومن يلبس بدلة رسمية وقورًا ومحترمًا. بل وقد يُنظر إلى من يملك عيونًا ملونة أو ملامح أوروبية على أنه راقٍ أو “ابن ناس”. وكل هذه الأحكام ليست إلا صورًا نمطية لا تعكس بالضرورة حقيقة الشخص.
ما خطورة هذه الأحكام؟
1. الظلم والتسرّع: حين نحكم على الآخرين من خلال مظهرهم، فإننا نظلمهم، ونتجاهل شخصياتهم الحقيقية التي قد تكون أعمق وأغنى بكثير مما يظهر على السطح.
2. فقدان العلاقات الحقيقية: ربما نحرم أنفسنا من صداقات أو تجارب إنسانية رائعة فقط لأننا رفضنا شخصًا بناءً على انطباع شكلي.
3. تعزيز النفاق والمظاهر: حين يصبح الحكم قائمًا على الشكل، يبدأ الناس في تزييف أنفسهم لإرضاء المجتمع، فيتظاهرون بالتدين أو الثقافة أو الوقار، دون أن تكون هذه الصفات حقيقية في داخلهم.
4. تدمير الثقة بالنفس: من لا يتطابق مع “المعايير الشكلية” قد يشعر بأنه غير كافٍ أو غير مقبول، مما يؤثر سلبًا على نفسيته وشعوره بذاته.
الجوهر أهم من المظهر
الإنسان لا يُقاس بما يرتديه أو كيف يبدو، بل بما يفعله، كيف يعامل الناس، وما يحمله قلبه من نية طيبة أو سلوك حسن. فكم من متدين حقيقي لا يظهر عليه شيء من المظاهر التقليدية! وكم من شخص يبدو أنيقًا ومحترمًا، لكنه يفتقر إلى أبسط قيم الأخلاق والاحترام.
خطورة الصورة النمطية والمظاهر
في حياتنا اليومية، كثيرًا ما نمرّ بأشخاص لا نعرف عنهم شيئًا سوى ما تراه أعيننا. نلمح ملامح وجه، أو نُبصر لباسًا، أو نسمع نبرة صوت، فنُسرع – دون وعي أحيانًا – إلى إطلاق أحكام قد تكون ظالمة، مجحفة، أو سطحية. هذه الأحكام، التي تُبنى على مظاهر خارجية، تُعرف بما يُسمّى في علم النفس بـ”الصورة النمطية” أو Stereotyping.
هي صور مسبقة، جاهزة في عقولنا، نستخدمها لتصنيف البشر بحسب الشكل واللباس والأسلوب، بدلًا من اكتشاف جوهرهم الحقيقي.
المظهر… بوابة أم سجن؟
لا أحد ينكر أن للمظهر الخارجي دورًا أوليًّا في تكوين الانطباع. فالإنسان بطبعه كائن بصري، يتأثر بما يراه. لكن الخطأ يبدأ حين يصبح المظهر هو كل ما نراه، وكل ما نبني عليه أحكامنا.
حين نرى شابًا يطلق لحيته، نفترض فورًا أنه متدين، وربما “ملتزم”. وحين نُصادف فتاة ترتدي الحجاب، نربط بين حجابها ودرجة إيمانها أو حيائها. من يلبس بدلة رسمية نراه وقورًا وذو شأن، ومن يرتدي نظارات نربطه تلقائيًا بالثقافة والذكاء. أما من يملك ملامح “غربية” أو عيونًا ملونة، فقد نصفه بالرقي أو “ابن ناس”.
لكن… كم من لحية لم تكن إلا موضة؟ وكم من بدلة لم تُخفِ إلا قلبًا قاسيًا؟ وكم من نظارة لم تكن إلا أداة للنظر، لا للفكر؟ وكم من حجابٍ سُتر به مظهر، لا جوهر؟
الصورة النمطية: اختصار مريح… لكنه خاطئ
الصور النمطية تُريح عقل الإنسان. فبدلًا من أن يُجهد نفسه في معرفة كل شخص على حقيقته، يُلصق به ملصقًا جاهزًا، اختصر فيه إنسانيته كلها.
لكن الخطورة هنا، أن هذا “الاختصار المريح”، يؤدي غالبًا إلى:
• ظلم الآخرين: قد نرفض التعامل مع شخص لأنه لا يُشبه الصورة التي نحبها، مع أنه قد يكون أنقى من كل تصوراتنا.
• خداع أنفسنا: نضع ثقتنا فيمن “يبدو” جيدًا، لا فيمن “يكون” كذلك فعلًا.
• تبنّي معايير زائفة: نبدأ في تقييم الناس وفق ما يلبسون، لا ما يحملون من قيم.
• فقدان المعنى الحقيقي للتدين، والثقافة، والرقي: نخلط بين الشكل والمضمون، فتصبح المظاهر دينًا، والأزياء فكرًا.
أمثلة من الواقع… مؤلمة لكنها حقيقية
كم من شخصٍ وُصف بالتقوى، فقط لأنه يُطيل لحيته أو يكثر من المواعظ، ثم اكتشف الناس لاحقًا أنه كان يُخفي وراء مظهره فسادًا أو نفاقًا؟
وكم من فتاة حُكم عليها بأنها “منفتحة” أو “غير محترمة”، لمجرد أن لباسها لا يُشبه الصورة النمطية للحشمة، مع أنها ربما أكثر حياءً وصفاءً من غيرها؟
وكم من شاب “عادي” المظهر، لا يلفت الأنظار، لكنه وقت الحاجة يثبت أنه الأكثر وفاءً، والأصدق نيةً، والأعمق خلقًا؟
كيف نتحرّر من سجن الأحكام السطحية؟
1. كن فضوليًا بشكل ناضج: اسأل، اقترب، حاول أن تفهم، لا تتسرع في الحكم.
2. افصل بين الشكل والجوهر: لا مانع أن تُقدّر الجمال أو الأناقة، لكن لا تجعلها معيارًا للأخلاق أو القيم.
3. ذكّر نفسك دائمًا: كل إنسان له قصة: قد ترى الوجه، ولا ترى الوجع خلفه. قد ترى الضحكة، ولا تعلم ما تخفيه من ألم.
4. عامل الناس بما يظهر من أفعالهم، لا أشكالهم: الأخلاق، المعاملة، الصدق، الوفاء… هي الموازين الحقيقية.
ختامًا: كن إنسانًا يرى بالقلب
في زمنٍ طغت فيه الصور، وتحوّلت فيه الحياة إلى استعراض دائم، نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى العودة للجذور… إلى الجوهر. دعنا نتذكّر دائمًا أن أعظم الناس خُلقًا، قد لا يكونون الأجمل مظهرًا.
وأن أقسى القلوب، قد تختبئ خلف أطيب الابتسامات. فلا تحكم على الكتاب من غلافه، ولا على الإنسان من شكله. فربما كان الغلاف براقًا، والمضمون فارغًا… وربما كان الغلاف بسيطًا، والمضمون عظيمًا.
دعونا نتوقّف عن إطلاق الأحكام السريعة..
ونتذكّر دائمًا أن “المظاهر خداعة”
وأن الجوهر لا يُرى بالعين، بل يُلمس في المواقف والسلوك
لا تحكم على الكتاب من غلافه، فربما في الداخل قصة لم تتوقعها.