
الجسد الذي فقد رأسه
بقلم الكاتبة و الناقدة/ أمينة الزغبي

‐ لا أعلم ياأخي إلي متي سنقضي ليلتنا كل مساءٍ في هذا المكان؟
‐ وهل لديك مكان أفضل منه على وجه الأرضِ؟
‐ عندك حق يا صديقي.. أسألك وأنا روحي لا تفارقه ليل نهار!
تتذكر يا سيد حينما علمنا بموافقة القيادة العليا علي “مبادرة روجرز” وقتها لم أصدق ما سمعت.. كيف لنا أن نقبل بمبادرة كهذه، ونحن في هذا الوضع السيء؟!
كنت أعرف يا سيد أننا من صغار الضباط، لا يؤخذ برأينا؛ لكننا كنا علي الأرضِ نحمل على عاتقنا أمل شعب كامل، ينتظر منا رفعة رأسه، وليس المهادنة مع من تسببوا لنا في الخذلان.. أذكر يومها أن الدماء تدفقت في عروقي، صعدت إلي رأسي حتي كاد أن ينفجر.. وعدتك يومها يا نقيب أنني سأفعل ما يمليه عليّ ضميري؛ وقد كان.. يومها ابتسمت لي في ضجر قائلا:
– تعتقد يا محمود أن ما فعلوه هو استسلام؟ نحن هنا في هذا الموقع ذو الأرض الطينية منذ عام ٦٧.. صامدين، نحرص علي تدريب كتيبتنا التي تضم ثلاثين مقاتلاً من أبناء الصاعقة الوحوش، الذين لا يملّون من السؤال المعتاد: متي سنحارب يا فندم؟ وأنت تعرف الإجابة التقليدية بالتأكيد!
‐ والله يا محمود لا أعرف كيف أستطيع رفع عيني بأعينهم بعد هذا الخبر المشؤوم؟
‐ كنت لا أعلم وقتها أنه نوع من الخداعِ السياسي؛ لذلك
كلامك يا سيد كان القشة التي قسمت ظهر البعير.. خاصة إن مقر كتيبتنا كان غالٍ علي قلبي.. كلمات من تبقَ من أهله المهجّرين، ودعواتهم لنا بالنصر كانت تصدح بين ضفتي رأسي وسط الدماء الفائرة في قاعها.. كما يصدح الكروان الحزين فوق ضفتي القناة.. تكالبت علي رأسي أحداث السنوات الست علي الجبهة.. التدريبات المكثفة في الشهور الفائتة؛ مما جعل الأمل بالحرب يتراقص أمام أعيننا!
دون اتخاذ أوامر مباشرة بالعبور لتنفيذِ عمليات؛ قمت بعد ظهر كل يوم بلف “أر بي جي” مع خمس أو ست دانات، مع عدد صغير من البنادق في كيس، وفي الليل أقوم بعبور القناة إلى الضفة الشرقية، أفجرُ تلك الدانات، وأغطى انسحابي بالبنادقِ إذا ما تعرضت لنوع من الاستهدافِ في رحلة العودةِ .
يقهقه النقيب سيد ضاربًا كف بالأخري قائلا:
‐ يقولون الشراقوه مثل الصعايده؛ رأسهم صلبة كالصخرِ، وأنت أثبت ذلك بالفعلِ يا شرقاوي.. تذكر ما حدث على أثر العمليات التي كنت تقوم بها يا تعلب.. ماذا حدث للقوات المصرية علي الضفة الغربية للقناة؟
‐ وهل ينسي التاريخ يا نقيب سيد؟!
قضت القوات المصرية على الضفة الغربية للقناة ليلة من القصف الإسرائيلي العشوائي من مدفعية العدو في الضفة الشرقية ردًا على ماحدث؛ مما دفع القيادة المصرية بتوجيه اللوم لي وتهديدي بالمحاكمة العسكرية، الحقيقة أنني كما قلت رأسي قٌدَ من صخر.. لم يثننِ ذلك عن القيام بمهامٍ جديدة؛ بالرغم من تعرضي للتحقيق في أعقاب كل عملية، في حقيقة الأمر أن الذي يحقق معي في الصباح، كان يتوقع قيامي في الليل بمهمةٍ جديدة!
دار حولي سيد كرادار يرصد الأجواء وهو يتحسس رأسه قائلا:
‐ من شدة التأثير السلبي للعملياتِ التي قمت بها يامحمود علي العدو؛ أصبح اسمك معروفًا لدي الإسرائيليين الذي علموا بهذه البطولات الفردية، ومن ثم؛ تم توجيه مكبرات الصوت الإسرائيلية أعلى الساتر الترابي للضفة الغربية؛ لتقوم بسبِ اسمك بأقذعِ الشتائم في محاولةٍ لإثنائك، حتى أنهم قاموا بوضعِ صورة لك على النقطة التي كنت تستهدفها في عبورك؛ لقتلك وليس للقبضِ عليك كأسيرِ حرب!
رأسك التي حلقت فوق رؤوسنا جميعًا ياصديقي مع غبار القذيفة؛ كانت الشرارة التي أشعلت نار الثأر وجعلتها تتأجج في القلوبِ والحناجرِ، التي هتفت باسمك وهي تفك قيود سلاحك القابض عليه بأيدي الجسد الذي فقد رأسه.. ظل حرصي على الهتافِ باسمك ياصديقي كلما أصبت هدف للعدوِ؛ حتي رفعت العلم المصري بيدٍ فوق هذا المكان من الأرضِ التي ارتوت بدمائنا؛ بينما الأخري كانت تقبض علي يدك،
ونحن نحلق سويًا في نشوة نصر ٧٣.