
وداعًا بحّار الضوء
بقلم الدكتورة / بسلم القارح – السودان

رحل أبي… وأكتب هذه السطور لأفتح للذاكرة نافذة على وداعه،
وأشارككم حزن ابنةٍ تودّع رجلًا علّمها أن المعرفة أفقٌ بلا ضفاف.
عابد نهل من القرآن طفولةً مضيئة،
وتشرّب مكارم الأخلاق كما يتشرّب الطين ماء النيل.
لا غرو فهو حفيدُ الشيخ العارف بالله شكال القارح،
منشأه في الجزيرة الخضراء بالسودان التي هام بها عشقًا،
و كلما ابتعد عنها، تذكّرها وتنشّق عبير ترابها، حتى على فراش الوداع.
فتح نوافذ روحه للعلم، فحملته دروبه إلى الشام،
ثم جاب مدن السودان مدينةً مدينة، يترك أثره في كل محطة،
وسلّم قلبه للبحر خمسةً وعشرين عامًا،
يقرأ المرافئ كما تُقرأ الصفحات،
ويحمل من كل ميناء حكايةً وكتابًا،
حتى صارت مكتبته وطنًا بألف نافذة على العالم.
من سكونه الهادئ تعلّمت أن التأمل عبادة،
ومن دفء حديثه أحببت التراث والكتب والبحار.
وحين غاب جسده، ظلّت همساته ترشدني في رحلتي مع المتاحف والآثار،
كأنه يهمس: كل أثرٍ حكاية، وكل معرفة ميناء جديد.
كان بحّارًا للمعرفة قبل أن يعرف البحار،
اتخذ الصدق مرساته،
والإيمان شراعه،
والقيم الفاضلة مرافئه الآمنة.
أيها البحّار النبيل،
يا من أوحيتَ لنا أن الكتب والبحر مفاتيح إلى الله،
غبتَ عن شواطئنا،
لكن دفء حنانك ما زال يرسو في أرواحنا،
وسيظلّ اسمك مصباحًا يهدي الدروب.
سلامٌ على روحك، ووعدُ اللقاء في جنّات النعيم، بإذن الله.
توقيعي ابنةُ ضابطٍ بحريٍّ عظيم
أحمل في قلبي أشرعته وفخره، وأبكيه موجًا لا ينحسر.
رحم الله خالي الغالي، كبير العائلة وعمودها، فقد كان مثالاً للطيبة والكرم. نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته
رحم الله وجهه الطيب وصوته الهادئ، كان أباً للجميع وسنداً لا يُعوّض. إنا لله وإنا إليه راجعون.