
معبد الكرنك: الجزيرة التي خرجت من قلب النيل لتصنع أسطورة الخلق المصرية
بقلم الدكتور / حسين عبد البصير

يُعدّ معبد الكرنك في مدينة الأقصر أحد أعظم المعابد الدينية التي شيّدها الإنسان على مرّ العصور، وأحد أكثر المواقع الأثرية في العالم إلهامًا وغموضًا. فمنذ آلاف السنين، وقف هذا المعبد شامخًا على ضفة النيل الشرقية، حارسًا لذاكرة مدينة طيبة المقدسة، وشاهدًا على مراحل تطور العقيدة المصرية القديمة من عبادة الشمس إلى توحيد آمون رع، ربّ الخلق والنور والحياة.
لكنّ السؤال الذي حيّر علماء الآثار طويلاً هو: لماذا اختير هذا الموضع تحديدًا لبناء المعبد؟
أجابت دراسة دولية حديثة على هذا السؤال بعد أن أجرت أوسع مسح جيولوجي وأثري لموقع الكرنك. فقد كشفت النتائج المنشورة في مجلة Antiquity في أكتوبر 2025، أن معبد الكرنك لم يُقم على أرضٍ عادية، بل على جزيرة صغيرة تشكّلت وسط مياه فيضان النيل قبل أكثر من أربعة آلاف عام.
كانت هذه الجزيرة، وفق التحليل الطبقي للرواسب والعينات التي جمعها فريق من جامعتي أوبسالا وساوثهامبتون، منطقة مرتفعة نادرة داخل السهل الفيضي، تحيط بها قنوات متعرجة للنهر، مما منحها طابعًا فريدًا جعلها تُشبه “التلّ البدائي” الذي تحدثت عنه نصوص الخلق المصرية.
ذلك التلّ الذي خرج من “مياه الفوضى” ليمثّل اللحظة الأولى للوجود.
ومن هنا، يبدو أن المصريين القدماء لم يختاروا الموقع صدفة، بل تعمّدوا ربط الجغرافيا بالأسطورة، والطبيعة بالعقيدة. فالمكان نفسه جسّد الرمز المقدّس للخلق والتجدد، وهو ما يفسر كيف تحوّل الكرنك لاحقًا إلى قلب طيبة النابض ومقرّ عبادة الإله آمون رع، إله الشمس والخالق في آنٍ واحد.
وتوضح الدراسة أن المصريين القدماء لم يكتفوا بالتكيّف مع الطبيعة، بل أعادوا تشكيلها بوعي مذهل؛ إذ قاموا بملء أجزاء من القنوات بالرمال لتوسيع الأرض الصالحة للبناء، مما مهد لظهور أعظم معبد ديني في التاريخ.
ومع مرور العصور، نمت الجزيرة الأولى وتوسعت، حتى أصبحت مجمع الكرنك الضخم الذي نعرفه اليوم، يضم الصروح والبوابات والبحيرات المقدسة والمسلات التي تحدّثنا عن عبقرية المصري في الجمع بين العمارة والعقيدة والكون في كيان واحد.
لقد جسّد معبد الكرنك الفكرة المصرية الأبدية عن التجدد والبعث، كما مثّل نموذجًا فريدًا لعلاقة الإنسان بالنيل، ذلك الشريان الذي لم يكن مجرّد نهرٍ للحياة، بل كان نهرًا للروح أيضًا.
وهكذا، حين تتأمل أعمدة الكرنك الشاهقة اليوم، وتقرأ نصوصه المقدسة التي تصف خروج الإله من المياه الأولى، تدرك أن هذا المكان ليس مجرد معبد من الحجر، بل أثر حيّ خرج من رحم النيل ذاته، تمامًا كما خرجت مصر من مياهه منذ فجر التاريخ.