وبالرغم من أن الدفاع عن حقوق المرأة أمر لا غبار عليه أبدًا، إلا أنه بالنظر إلى ما آلت إليه بعض النسويات من تطرف يبدو الشعور بالخجل الذي تعانيه ربات المنازل الفاضلات أمرًا مفهومًا جدًا، فها هي
بيتي فريدان النسوية المعروفة تصرح ما معناه ” أن النساء اللاتي يتأقلمن كربات منازل هن في خطر كبير، إذ أنهن يعانين من موت بطيء للعقل، والروح”، بينما تذكر سيمون دي بوفوار في كتابها ” الجنس الآخر” :” لا تُعرف المرأة ككيان مستقل، بل كأم، مما يجعلها تتبنى هوية تعتمد على الآخرين، بدلًا من أن يكون لها هويتها الخاصة”. بينما هناك كتب تتحدث عن أن الأمومة تقوض، وتضعف كيان المرأة، وأنها ليست غريزة مخلوقة في تكوينها، إنما فرضت عليها فرضاً من المجتمع الذكوري.
وكيف نعلل إذن أمومة الحيوانات التي قد تقتلك إن حاولت الاقتراب من صغارها؟ بل وتتبنى صغار غيرها إن هي فقدت أمها،
هل فرض عليها مجتمعها الحيواني غريزتها أيضا؟َ!
مقولات كهذه تقزم قيمة الأمومة، وبناء العائلة، وترفع من قيمة الفردية متجاهلة أننا اجتماعيون بطبعنا، وأن العائلة هي مطلب فطري للإنسان، تشكل عاملًا فارقًا في تكوينه، وتوازنه النفسي كمخلوق اجتماعي، وربما كان لهذا التطرف النسوي ما يبرره في وقته بسبب القمع الشديد الذي كانت تعاني منه المرأة الأوربية حيث نشأت الحركة النسوية، فما يجدر ذكره هنا أن أوروبا عانت من جدل واسع يشأن اعتبار المرأة إنسانًا، أو لا، ولم يتم الاعتراف بإنسانيتها حتى عام ألف وخمسمائة وستة وثمانين ، هذا التطرف في النظر إلى المرأة، أدى وبكل تأكيد إلى التطرف في محاربته، وهو أمر مفهوم تمامًا، إلا أنه و بعد أقل من مائة سنة من ظهور الحركة النسوية ظهرت النتائج السلبية لمن اعتنقن النسوية بشكلها المتطرف، وليس الشكل المنطقي الذي يطالب بحقوق المرأة دون أن ينبذ طبيعتها، واختلافها، وغريزتها، ويضرب بمشاعرها عرض الحائط، فالنساء اللواتي انخدعن بتلك الشعارات، أعربن لاحقاً عن ندمهن، على سبيل المثال تقول الكاتبة النسوية بترونيلا وايت نقلا عن ” الديلي ميل” إنها نشأت متشبعة بمعتقدات الحركة النسوية، لكنها تشعر الآن مع العديد من صديقاتها في الحركة بأن النسوية قد خذلتهن وخذلت جيلهن، ولا ينبغي السماح للنسوية بتدمير حياة الأجيال القادمة، حيث أبدت السيدة وايت، في مقال لها بصحيفة “ديلي ميل” البريطانية، ندمًا وتحسرًا عميقين على ما أسمته ضياع عمرها في اعتناق وممارسة مبادئ الحركة النسوية.
وأضافت أنها لا تزال تلتقي كل يوم اثنين بمجموعة من صديقاتها في مطعم بلندن، يجلسن على طاولة بالقرب من النافذة، ويناقشن ما آلت إليه حياتهن، حيث أن لديهن أشياء كثيرة مشتركة، فهن جميعهن في منتصف الـخمسينات من العمر، ناجحات، ومتعلمات تعليمًا عاليًا، ومع ذلك يشعرن بأن هناك فراغًا كبيرًا في حياتهن، فجميعهن عازبات دون أطفال.
ومن المفيد أن نذكر أن الثورة الصناعية، والحروب العالمية التي أدت إلى مقتل الكثير البشر، أغلبهم من الجنود ، والحاجة الشديدة لأيد عاملة، هي من أهم العوامل التي أدت إلى ولادة الحركة النسوية، لأجل اخراج المرأة إلى سوق العمل باسم حقوق المرأة، لكنها وقتها لم تحصل على راتب مساوٍ للرجل، ولا ظروف عمل عادلة، ففي كتاب “النسوية والرأسمالية” ناقشت كاتبته أندريا دوركين كيف أن الرأسمالية تعتمد على العمالة النسائية بأجور منخفضة، وظروف عمل غير عادلة.
وعلى أرض الواقع، وبحكم إقامتي في أوروبا، أرى حولي الكثير من النساء، والرجال العازبين في شيخوختهم، لا يؤنسهم سوى كلب، أو قطة، وعندما تمعن النظر إليهم يداهمك شعور غامض بالبرد، البرد ذاته الذي يستعمر قلوبهم، وحيواتهم، فالأسرة كانت وتبقى مصدر الدعم، والدفء، والتوازن الحقيقي عند البشر.
وعلى سبيل الذكر، أرى أن بعض النسويات تطرفن حتى جعلن العلاقة بين المرأة والرجل تبدو كجبهة حرب، أذكر مرة أن أستاذ اللغة الهولندية أخبرنا أثناء الدرس بألا نستغرب سلوك بعض الرجال، ممن قد لا ينهضون ويتركون المقعد لامرأة في الازدحام، أو لا يساعدوها في رفع حقيبتها الثقيلة إلى الرف العلوي في القطار، أو إلى القطار، إذ أن الرجال في هولندا تعرضوا مرات عدة إلى إجابات جافة من النساء من قبيل: هل تظن أني ضعيفة لتحمل لي حقيبتي ؟؟وبالنسبة لي أرى في سلوك كهذا تطرف لا معنى له‘ فبادرة لطيفة كهذه لا تقابل إلا بالشكرـ سواء قُبلت تلك البادرة، أو رُفضت.
وبالعودة لموضوعنا “الأمومة”، علينا أن نعترف أنها إضافة إلى ما تقدمه إلى المجتمع من مواطنين متوازنين، واعين بمهامهم، يتحملون مسؤولية النهوض بتلك المجتمعات، تحقق أيضًا التوازن للأم ذاتها، وهي ليست عبئًا كما يُروج لها، بل مسؤولية كبيرة مصحوبة بسعادة لا حد لها، دون أن أغفل طبعًا، أنه لا ينبغي لنا أن نختصر وجود المرأة بدورها الانجابي، والأسري، ونغفل قيمتها الإنسانية المجردة، ما يجعل من حرمن من الانجاب لسبب أو لآخر تحت مرمى نيران صديقة لمجتمع لا يقر بقيمة الإنسان ذاته، فالمرأة شخص فاعل في المجتمع بطرق عدة، وما الأمومة إلا إحدى تلك الطرق، إنما أيضًا من الخطأ الجسيم انتقاص دور الأم، وهي التي تبني الإنسان الركيزة الأولى لبناء، و صنع الحضارات، والمجتمعات على مر التاريخ.
وها أنذا كأم، عندما تخرجت ابنتاي من الجامعة كان فرحي وفخري يفوق كل ما أنجزته على الصعيد الشخصي، ويومها كتبت ما معناه:
” لا يهم ما أنجزناه على الصعيد الشخصي مهما كان كبيراً، ومهما شعرنا بالفخر، ففي النهاية شعورنا الحقيقي بالإنجاز ، وبالنجاح كأمهات نراه، ونستشعره من خلال أولادنا، وانجازاتهم، كأنهم الاختبار الحقيقي لنجاحنا في الحياة، أظنهم -أولادنا- المعنى العظيم و الحقيقي لوجودنا.