أدب الحرب في الألفية الثالثة

أدب الحرب في الألفية الثالثة

بقلم الأديبة الدكتورة/ عبيرخالد يحيي     

12/10/2024

يقول داريدا: ” إن شيئًا ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر لكننا لا ندري ما هو”

بهذه الحيرة والدهشة أشار داريدا إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر! ولعل أسوء ما في تلك الأحداث لم يكن الأحداث بحدّ ذاتها، وإنما تدعيات تلك الأحداث، التي وضعت العالم بأثره أمام صراع لا يمكن تحديد ماهيته، ولا الوقوف على أهواله التي تجاوزت بكثير فظاعات الحروب السابقة، والتي يمكننا أن نطلق عليها مصطلح الحروب الكلاسيكية، فما هي طبيعة هذه الحروب الحالية والتي سنطلق عليها مصطلح الحروب المعاصرة أو الحروب الإرهابية ؟!

في بحث منشور في موقع maaber.org  بعنوان ( باراديغم[1] الحرب العالمية الثالثة محاولة في تحديد مفهوم الإرهاب)، كتبه /الفاهم محمد/، وهو باحث في قضايا الفكر الفلسفي من المغرب، في مقدّمة مقاله يستعرض القوانين والقيم الأخلاقية التي كانت تحكم الحرب الكلاسيكية :

“….ورغم أن الحرب كانت دومًا تمثل الخطر الأقصى الذي ينبغي دفعه واستبعاده عن الأمة، إلا أنها مع ذلك وفي حالة قيامها فهي تنبني على أخلاقيات صارمة، تتعلق مثلاً في حالة الإسلام باحترام العدو وعدم التنكيل بأطفاله ونسائه، كما تفرض أيضًا قيودًا صارمة بضرورة احترام الطبيعة وعدم تسميمها، فالحرب ينبغي أن تتمَّ في نوع من الممارسة الفروسية النبيلة، والانتصار غير المستحق ليس انتصارًا شريفًا وإنما هو هزيمة مقنَّعة”.

يضع الباحث حروب الألفية الثالثة بمقارنة مع الحرب الكلاسيكية، لينتهي إلى أنها حرب مبدّدة لكل الموروث الثقافي والوطني لأي أمة تُبتلى به، فالحروب الكلاسيكية على الرغم من شدّة بطشها كانت نبيلة، لها قوانينها الحربية التي تحترم فيها إنسانية الخصم بكل ما يحمله من موروث وجداني وحضاري وثقافي، غير أن المنعطف الذي تعرفه الألفية الثالثة بعيد كليًا عن هذا الأفق، فنحن لأول مرة في تاريخ البشرية نتجه نحو تأبيد الحرب وجعلها علامة مميزة للحضارة المعاصرة، فهي  حروب إرهاب قذر:  

“لقد كان للحرب لدى جميع الشعوب القديمة، بل وحتى البدائية، طقوسها الشعائرية الخاصة وموروثها الثقافي، الذي قد يتجلّى في تعزيز الروح الوطنية، والإحساس بالانتماء لهوية حضارية ما، أو بسبب الممارسة الفروسية النبيلة. غير أن الإرهاب اليوم يعلن عن نفسه كتبديد لهذه الثقافة، أي كإهدار لما هو “إيجابي” في الحرب، واستكمال للوجه الآخر القذر لها. من هنا يبرز الطابع العبثي لمفهوم “الحرب على الإرهاب” ….

حول هذا التبديد الثقافي، وتحت سيوف الحرب والإرهاب دارت أحداث الكثير من الروايات، منها رواية/ قيامة البتول الأخيرة ( الأناشيد السرية)/ للأديب السوري زياد كمال حمامي والتي تناول فيها على التوازي موضوعَي الحرب القائمة في سوريا في العقد الثاني من الألفية الثالثة، بالترافق مع سرقة التراث الثقافي والحضاري للبلد بمؤامرات سرية من منظمات ماسونية.

ف “الحرب ظاهرة اجتماعية، ولأن الواقع الاجتماعي هو العالم المرجعي الذي تنطلق منه الرواية وتحيل إليه، ولأن الرواية ترصد المجتمع بظاهراته وتحولاته في محاولة منها لتقديم شهادة فنية عليه، تدخل في التاريخي وتخرج منه في آن، كان لابد لها من الاهتمام بالحرب، الظاهرة الاجتماعية لاسيما في بعدها الداخلي”[2]

ورواية الحرب: “تُعدّ نموذجًا للسرد الهادف على مستوى الإنسان والوطن، ويشغل أدب الحرب حيّزًا كبيرًا من الأدب العالمي”[3].

أما إجرائيًّا، فإن رواية أدب الحرب: هي أدب نوعي وأدب واقعي،  ونعني به كأدب (نوعي) أنه يتناول الحروب في المجتمعات المختلفة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو أدب (واقعي) في تناوله للحرب كظاهرة اجتماعية وسياسية بأبعادها المختلفة، من حيث تأثيرها على الإنسان والمجتمع سواء في الجبهة أو على المجتمع من الداخل.

ولما كانت الحرب، كما أسلفنا؛ عملية اجتماعية وسياسية في آن واحد؛ تعدّ ظاهرة اجتماعية؛ فإن للحرب انعكاساتها الاجتماعية والسياسية على:

– (الإنسان) بالدرجة الأولى، وهو أثر أنثروبولوجي وسيكولوجي خبره الإنسان منذ الأزل

– و(المجتمع) الذي يخوض تلك الحرب بالدرجة التالية، وهو أثر سيسيولوجي.  

فالأدب لا يولد إلا من عمق الصراع بين ما هو ذاتي وما هو اجتماعي، حيث يعيش مبدعه في حالة صراع دائم مع المجتمع[4].

يقترب مفهوم التحول الاجتماعي كثيرًا من مفهوم التغيّر الاجتماعي ويتداخل معه، غير أن ما يميز التحوّل الاجتماعي أنه ذو طبيعة كلية شاملة تؤثر على مختلف جوانب المجتمع في ثقافته ومنظوماته القيمية وفي أوضاعه الاجتماعية، وهي التحولات التي قد تؤدي إلى بنية إنسانية أو شخصية جديدة، كما حصل مع بطلَي رواية/ الفناء الخلفي/ للكاتبة السورية لميس الزين، والتي تناولت فيها  التحوّلات السيسيولوجية التي طالت المجتمع السوري في الحرب الأخيرة، “وفي مراحل التحوّل يخضع المجتمع لحالة دينامية شاملة، لا يستقر المجتمع خلالها إلا إذا حقق التحول غاياته”[5]

وهناك نوع قديم جديد من أدب الحرب ظهر في مطلع الألفية الثالثة، هو أدب الغزو، فبأكذوبة مفضوحة، تلخّصت بتهمة (امتلاك أسلحة دمار شامل) غزت أمريكا العراق، واستُؤنفت  معزوفة السقوط التي بدأها بوش الأب بعاصفة الصحراء في العام 1991،  وتابعها بيل كلنتون بالحصار والتجويع، ثم أكملها بوش الإبن في العام 2003 بغزوه السافر للعراق.  ولم يستطع الأدب إلا أن تهتز  حروفه على إيقاعها البشع المرعب، فكانت الروايات تُكتب بحروف محترقة بنار المعاناة، وكانت القصائد مرثيات تبلّل اللحى وتلطم الوجوه…

هذا النوع من أدب الحروب ثيمته الرئيسية هي (الغزو)، وما يترتّب عليه من مآسٍ وأهوال إنسانية، ودمار عمراني وأخلاقي، كما سمعنا وقرأنا عن أهواله في الأوروبا في القرون الوسطى، والغزو العثماني، ثم الاستعمار الأوروبي للبلدان العربية في مطلع القرن العشرين، وإلى الآن ماتزال البلدان التي تعرضت للغزو ترزح تحت تبعاته، رغم اندحاره منذ زمن، لذا سأطلق عليه مسمى ( أدب الغزو)، وهو مصطلح جديد تبنته  الذرائعية في أدب الحرب المعاصر طبقًا لتوسّع القاعدة بالاعتداءات المتكررة التي حدثت في الشرق الأوسط، وتقاسم الغزو فيها أمريكا وتركيا وإيران وروسيا، وكانت ضحية الغزو العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا، وهذه استعادة جديدة لاستعمار جديد في عصر التكنولوجية والتقدّم العلمي الذي يرجو فيه الإنسان التخلص من الظلم والطغيان نهائيًّا، والارتقاء لحياة رغيدة يفرش فيها العلم بساطه الأخضر الذي حوّله الغزو إلى بساط أحمر.

  أما الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين فهو النكبة التي مازالت جاثمة على صدر الأمة العربية، وكل ما يكتب فيها هو  (أدب النكبة).

  كُتبتْ في ( أدب الغزو) العديد من الروايات، منها رواية ( حليب المارينز) للروائي العراقي عواد علي التي كتبها في العام 2006، ورواية ( حارس التبغ) لعلي بدر التي انتهج فيها البحث الصحفي، وهو الأسلوب الذي يميز هذا النوع تحديدًا من أدب الحرب، حيث تكثر فيه الخطابات التسجيلية والإخبارية التقريرية، وتعتبر رواية (الحفيدة الأمريكية) (2008 ) للروائية العراقية إنعام كجه جي من أكثر الروايات العراقية التي تصوّر الواقع المؤلم للعراق بعد سقوط صدام، وكذلك الأمر مع رواية ( ساعة بغداد) (2016) لشهد الراوي، و(خاتون بغداد) ( 2017) لشاكر نوري، و(مشرحة بغداد) (2012 ) لبرهان شاوي، ورواية ( اللحية الأمريكية) للروائي العراقي عبد الكريم العبيدي، وهي الرواية الفائزة بجائزة كتارا  للعام 2018،

كلها روايات تعكس أدب الغزو، “وتحاول توضيح المعاناة المستمرة للمواطن العراقي، وتداعيات انهيار دولة النظام إبان دخول القوات الأمريكية[6]، وكلها تكشف الغطاء عن عراق ما بعد صدام، وتركّز على سقوط بغداد، وتعتبره الحدث الفاصل، وتؤرّخ به، فالعراق ما قبل سقوط بغداد غير العراق ما بعد سقوط بغداد، رغم أن العراق شهد قبل السقوط اثنتي عشر سنة عجاف من الحصار، وقبلها غزو أمريكي سابق في حرب الخليج في العام 1991، إلا أن سقوط بغداد في العام 2003 على يد الغازي الأمريكي كان كارثيًا بكل ما تعنيه الكلمة، حال من الفوضى العارمة والدمار والقتل والتشريد والتهجير الطائفي، لم يكن لها مثيل، أريق فيها الدم العراقي من عروق الناس الأبرياء والإرهابيين على حد سواء.

أخيرًا: إذا كان القرن الأخير في الألفية الثانية زمن شهدت فيه البلدان العربية حروب التحرير من الاستعمار الغربي، وحرب النكبة، وحرب النكسة، وحرب تشرين، فإن العقد الثاني والثالث من الألفية الثالثة تشهد حروب إبادة صريحة وقحة على أيد الكيان الاسرائيلي، طعنة الخنجر في خاصرة الوطن العربي، إبادة مبتدأها في غزة، واتساعها ممنهج باتجاه لبنان حاليًا، ثم سوريا والأردن والعراق ومصر لا سمح الله، ومؤكد سيواكب الأدب هذه الحرب، وسيكتب فيها الكثيرون، تحت مسمّى: أدب حروب الإبادة.

                                     #دعبيرخالديحيي                 الاسكندرية         14 أكتوبر 2024           

[1]Paradigm: النموذج الفكري أو النموذج الإدراكي أو الإطار النظري، ظهرت هذه الكلمة في أواخر الستينات من القرن العشرين بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة ” الإبستيمولوجيا”  

[2] بوتول جاستون، الحرب والمجتمع، تر عباس الشربيني –القاهرة ، دار المعرفة الجامعية، ط1، ص 113

[3] – نجم عبد الله، مقالات في النقد الأدبي والظاهرة الأدبية، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2010

[4] G, Elizabeth, and T.Burens, Sociology of literature and drama, c.nicholls company, ltd .,Grate britian ,1979.

[5] -علي ليلة، تأثير التحولات الاجتماعية والاقتصادية على بناء الأسرة ووظائفها، جامعة عين شمس، 2004، ص78

[6] – مقالة ل د. عبد الودود النزيلي بعنوان: إلمامة من بعيد لبعض الروايات العراقية لعراق ما بعد صدام حسين  في مجلة راي اليوم 23 إبريل 2020

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *