عنبر العقلاء
بقلم الكاتبة و المترجمة / غادة جاد
18/10/2024
عنبر العقلاء
” لا تجهد عقلك أو تقدح زناد فكرك في موضوع أو كتاب تنوي كتابته..فلدينا الحل الذي يوفر الوقت و الجهد أما المال فبوسعنا أن نقدم لك حزمة من الأسعار التي تناسب ميزانيتك…”
هكذا طالعني إعلان لإحدى الشركات الأجنبية المتخصصة في الكتابة و معاونة المؤلفين على كتابة نصوصهم على اختلاف تخصصاتهم…ظننت في البداية أنه مجرد إعلان جاذب و أن الخدمات في حقيقتها تنحصر في التدقيق اللغوي و التحرير و المراجعة فضلا عن إمكانية المساهمة في الدعاية للعمل و نشره و توزيعه، و لكن ُُُصدمت من حقيقة مفادها أن الأمر يتجاوز هذا بكثير … فالشركة تعلن جهارًا عن تقديم خدمةكتابة النصوص الإبداعية لتخرج لجمهور القراء بصورة احترافية مدروسة جاذبة – على حد تعبيرهم- باستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية و برامج الذكاء الاصطناعي المتخصصة في الحيل الأدبية التى من شأنها تحقيق النجاح الباهر للنص و ضمان انتشاره على أوسع نطاق ، فالشركة بفضل أحدث التقنيات العصرية تضمن حصول نصكم على جوائز عالمية و أن يصيب الهدف و تبلغ شهرتكم عنان السماء…!!!
و ما أقبح الفكرة و ما أخطر تبعاتها!!!.
سرحت بخاطري في معان مرتبطة بالعملية الإبداعية، مثل : دفقة شعورية، إلهام بديع ، قدح زناد الفكر، جاد به العقل، إحساس مرهف ، موهبة فذة، أصالة الفكر ، صورة خلابة، خيال خصب …فإذا بها تتلاشى فجأة و غيرها من مفردات مرتبطةبالإبداع الإنساني من الوجود و ذلك ببساطة لأن الإبداع الإنساني ذاته صار مهددًا بالانقراض !
رحت أفكر بجدية في تبعات الأمر على الانتباه والتركيز فكثرة الاعتماد على التقنيات الرقمية و مهارات الذكاء الاصطناعي و استبعاد العقل و عدم تحفيزه على القيام بمهامه الطبيعية التى خلقها الله سبحانه و تعالى و ميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات يؤثر بالضرورة في قدرة دماغنا على التركيز والحفاظ على الانتباه و التطور على نحو صحيح ، فقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يعتمدون بكثرة في أداء مهامهم على الوسائل التكنولوجية دون تحفيز العقل يظهرون أداءً سيئًا في المهام التي تتطلب انتباهًا مستمرًا مقارنةً بالأشخاص الذين يعتمدون على عقولهم و مهاراتهم الطبيعية . و قد يؤدي اتساع نطاق استخدامات الذكاء الاصطناعي إلى تفاقم المشكلة و ربما يفقد العالم عقله و تصير فئة البشر المستخدمة لعقلها قلة يتطلب الأمر ضرورة الحفاظ عليها في عنبر للعقلاء !!!
وبالإضافة إلى المخاوف الأخلاقية والوجودية المتمثلة في أصالة الإبداع البشري الذي هو مزيج فريد من التجارب الشخصية والعواطف والتأثيرات الثقافية ، مما يجعل كل إبداع مميزًا وشخصيًا للغاية ، فإن استخدم أدوات الذكاء الاصطناعي ،التى يُظن أنها تعزز العملية الإبداعية ، تنافي أصالة الخلق البشري التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي مهما بلغ من تطور أن يصنعها، فقلب الخلق و روحه و عاطفته تظل بشرية بطبيعتها. و تتزايد التحديات الخطيرة المتعلقة بدور الذكاء الصناعي في حياتنا، فإذا تأملنا تطبيقاته فلابد أن نفكر في كيفية تأثير ذلك على إحساسنا بالهوية و قيمة إنجازاتنا وما يعنيه أن نكون بشراً ،فإذا زادت تلك التطبيقات عن الحدود المنطقية المقبولة ستنقلب بالضرورة إلى أدوات تخريب للمهارات المعرفية و روح الابتكار و الإبداع البشري و سيصبح العالم على شفا الجنون.
———————————————————————————————————————–
الكاتبة القديرة غادة جاد الحاصلة على ماجستير الأدب اللاتيني من جامعة إسكندرية عام 2008
وهي إحدى المبدعات الناجحات في مجال الأدب والترجمات وهي معروفة بتفانيها وإبداعها وتحظى بتقدير واسع من قرائها والنقّاد أيضا
ومن أعمالها ( سبعة أيام في فندق سيسل – وداعا الإسكندرية – كيف تصبحين ليدي )
تُعتبر الكاتبة واحدة من الأصوات الأدبية الرائدة في مصر وتعد كتاباتها مساهمة قيمة في إثراء الأدب والثقافة المصرية
أعمالها تميزت بالعمق والصدق في تناول القضايا الاجتماعية والنفسية، مما أكسبها تقديرًا واسعًا من القراء والنقاد على حد سواء
إن التزامها بالأدب والترجمة يعكس شغفًا حقيقيًا بالمعرفة والثقافة، وتعتبر مصدراً للإلهام للكثيرين ممن يتطلعون إلى اقتحام عالم الكتابة والنشر
وإليكم أحد أعمالها المكتوبة حصريا لموقعنا مبدعات عربيات
أحسنتِ الطرح والعرض والتساؤل، أراه أمرا مرعبا حقا، وإعلانا مستفزا جدا، فكيف نتخلى عن النقح اللذيذ للفكرة، والأرق الملح من أجل كيفية خروجها، والألم العذب ساعة ظهورها على الورق، والتعب الرائع في تنقيحها والتأكد من اكتمال صورتها النهائية ؟؟
لن نتخلى عن كل أوجاعنا الحلوة بهذه البساطة .
عزيزتى الأستاذة الفاضلة غادة جاد تناولتى موضوعا يمسنا جميعا و يمس واقعنا المعاصر بسلاسة و مصداقية شديدة لافتة للأنظار .
حين نجد أننا نسىء إستخدام الثورة التكنولوجية لنحصل على ربح مؤكد دون مجهود أو معاناة فكرية و شعورية ليفقد كل شىء معناه و يتحول من مشاعر و انطباعات و مفردات تختلف من إنسان لإنسان إلى مجرد نماذج مقولبة بلا روح و لا شخصية .
سلمتى و سلم سرد قلمك و فى انتظار جديدك بإذن الله ♥️♥️♥️