اللون الأخضر المائل للرمادي في الخلفية يضفي هدوءًا وحميمية، ولكنه في نفس الوقت يعكس شيئًا من القِدم والتقليدية، يذكرنا بطلاء حوائط البيوت القديمة ربما، وهو ما يناسب الجو العام للقصص التي تميل إلى سرد حكايات شعبية محلية بلمسة من الماضي والتراث.
الخط الذي كُتب به العنوان يتسم بالبساطة وهو الخط اليدوي، مما يعزز من الطابع المحلي والعفوية التي تتصف بها القصص، ويعطي انطباعًا بأن هذه القصص قريبة من الناس، وربما تنقل حكاياتهم اليومية ومشاعرهم.
الإهداء:
“إلى.. نفسي،
أستحق أن أصفق لها مرة بعد مرات من جلدي لذاتي
إلى عمر وليلى..
تلك محاولاتي لأن أترك لكما بعض الحواديت الصادقة”
من الجميل أن يجعل الكاتب كل عناصر العمل منذ الغلاف وحتى النهاية علامات موحية دالة ومتضافرة لتوصيل الرسالة، وهنا جعل علاء أحمد من الإهداء عتبة نصية غائية التوجه، لم تكن المرة الأولى التي أقابل فيها كاتبا يهدي عمله إلى نفسه، القاسم المشترك بين هؤلاء الكتاب هو الشعور بالاستحقاق بعد كثير من المعاناة والاضطهاد التي يمكن الاستدلال عليها من خلال السياقات الداخلية، إلا أن الفراغ البصري بعد (إلى) الأولى في العنوان توحي بالتردد، عكس (إلى) الثانية، إلى جانب التبرير الذي جاء بعد الأولى وكأنه حيلة دفاعية ينفي بها عن نفسه النرجسية أو الأنانية.
الإهداء الثاني، فيه امتداد للعنوان، وإصرار على كنه المضمون (الحواديت) ولكن هنا منحها صفة أخرى وهي الصدق، وبالتالي نحن أمام حواديت صادقة محلية الصنع. هكذا يمنحنها الكاتب على مهل فكرته، هكذا تحدث عملية تشبع القارئ للحالة رويدا رويدا.
ينقلنا الكاتب لعتبة أخرى لم أستطع الفكاك منها (تعريف لا بد منه) عني..
“لا بد” التي تمنح حتمية التوقف والقراءة، هي تهيئة تمد بعدة خيوط يستكملها الكاتب من خلال حواديته داخل دفتي الكتاب.
يقدم الكاتب نفسه بأنه لم ينشأ بين الكتب والمكتبات، حيث تأتي مصادر إلهام القصص من الحياة المعيشية، حيث استمد “أجمل القصص” من المقاهي و”أروع الروايات” من الحواري، وليس من الكتب الأكاديمية أو الأدبية مما يؤكد علاقته الوثيقة بالبيئة الشعبية والناس البسطاء، وهذا يعكس بوضوح الطابع الواقعي لمضمون القصص.. التي تستند إلى تجارب حقيقية أكثر من كونها خيالًا أدبيًا.
عكس كذلك مشاعر الخزي والبؤس عندما يُنادى على اسمه في طابور الصباح لعدم سداد المصروفات، أو عند اختياره كضحية في الصف من قِبَل معلم الرياضيات، حيث تصوير حالة الصراع الاجتماعي التي عاشها، إلى جانب إظهاره للأشياء البسيطة التي كانت مصدر سعادة وبهجة كعلبة الهريسة، ثم يخرج من ذاته إلى مجتمعه الذي تكونت شخصيته من خلاله بعاداته وموروثاته، من زيارة المقابر وقرع الطبول وعادات النساء في المآتم وكيف كانت هذه الثقافة الشعبية هي جوهر الحواديت حيث تشكل جزءا كبيرا من الهوية الجماعية للشخصيات.
في هذا التعريف كل البدايات، بدايات خيوط الحواديت، بدأت منه هو، وكيف لا وهو يقول: “كل مهمل في الحياة له أهمية في ردهات عقلي، كل كلمة ألقاها صاحبها دون بال أحتفظ بها في جيوب ذاكرتي، بل وأصونها له من التلف بإعادة تدويرها وتأويلها”
من هذا البيت الفقير انطلق الطفل الصغير يأمل في دراجة مستعملة نظير تفوقه الدراسي، رغم خوفه ورعبه من مدرس الرياضيات الذي يبحث في وجوه التلاميذ عن ضحية يمتهنها، ومن مقاهي الكادحين التقينا ذلك الغريب الذي جاء من الصعيد يبحث عن فرصة عمل، واستمعنا إلى بكتيريا السرسجي الذي “تركله الحياة في كل بقعة من جسده” ، فنرى وجها آخر غير الذي كنا نعرف، في داخل المقهى شباب الأدباء يتبادلون النصوص الشعرية، فيطالعنا بطل نظرة بحكايته المشتهاة عن فتاة ربما كانت من نسج خياله، تتبدد سرابا، ومن موقعنا هناك على هذا الكرسي الخشبي رأينا المسكين الذي يأكل من القمامة والذي لم يجد بدا من العيش سوى أن يحاول التشبه بالكلاب، فتأخذنا الحسرة، ثم نستفيق على صرخة وحيد الذي يموت في حادث طريق وهو يحاول اللحاق بخروفه الفزع الخائف من همجية البشر الذين يريدون ذبحه، ثم على ناحية الطريق نلحظ عشة خشبية يسكنها عجوز بائس لا تستره العشة من المطر، ولا تصل شكواه إلى أحد فيموت في صمت حتى تتعفن جثته، نركب مع علاء الميكروباص -والذي كان أول نجاحاته أن يجتاز جمع أجرته – لنشاهد مشهدا مكررا لجمع الأجرة، وتزمر السائق وتوقفه لوصول الأجرة ناقصة، لنكتشف أن العجز في الأجرة لرجل مسن لم تسعفه تمهله الحياة وقتا لدفع الأجرة فيموت، نتجه معه إلى محطة القطار لنعيش أصعب اللحظات وأكثرها توترا في السبنسة معه هو وأصدقائه اللذين يحاولون طي الطريق من طنطا إلى الإسكندرية في سبنسة المكيف بدلا من انتظار القشاش (قطار الفقراء)، إلى الإسكندرية نصل بسلام إلى صابر اسما وصفة، إلى المحمودية، وإلى حتمية الربط التاريخي بجذور هذا المجتمع الذي تشكل عبر عصور، هوية غير مبتورة، تاريخ يعاد مرارا وتكرار لمن كان له عقل وتدبر، صابر الأول وصابر الثالث ، وكلنا صابر على مر ألم به، كلنا سواء وكلنا مسحوقون ولكن يبقى من قال لا في وجه من قالوا نعم. شششششششش تنتهي المجموعة… صمت صمت وكأن الستار قد أسدل، انتهى الكلام، و”خلصت الحدوتة” مثلما انتهى بث إرسال الراديو بسبب ضعف الإشارة، أو ربما بسبب ضعفنا نحن عن الكلام.
الواقعية الكلاسيكية وأدواتها:
اختار الكاتب الواقعية منهجا أصيلا لكتاب حواديته التي أأبى أن أصنفها قصصا، الواقعية التي تسعى لنقل الواقع كما هو، وتجسيد حياة الشخصيات بشكل موضوعي بدون تزييف أو تحسين، تنقل أحلام البسطاء، وصراعاتهم داخل المجتمع من أجل البقاء ولو كفافا وهذا ما يظهر في قصص هذه المجموعة.
1. التصوير الواقعي للحياة اليومية:
حواديت محلية الصنع تقدم مشاهد من الحياة المصرية اليومية وخاصة حياة الطبقات الكادحة والفقيرة. الكاتب يبرز التفاصيل الدقيقة للأماكن والشخصيات دون تجميل أو إخفاء للواقع الصعب، مثلما نرى في وصفه لحياة العمال وحكايات الأسواق الشعبية وأحلام البسطاء، كحلم امتلاك دراجة أو ركوب القطار المكيف ولو في السبنسة، بل وحلمهم باحتياجات أساسية كمسكن يأويهم المطر وطعام يقيهم الجوع كما في (سكن) و(أن تكون كلبا)، صور الكاتب التفاصيل الدقيقة، في مشهدية سينمائية بارعة، شخوص نابضة، أماكن مجسمة حولك، أصوات أنت تسمعها وأنت تقرأ، للأشياء والحيوانات والمواصلات والباعة الجائلين، أن تشم معه الروائح، تلمس الأشياء، تشعر بنبض الأشياء في داخلك. وإمعانا في تلك الواقعية حضر الكاتب بنفسه في أكثر من مجموعة؛ فحضر باسمه في قصة (السبنسة)، وصفته ككاتب، وباسم مجموعته في الحدوتة التي تحمل اسمها (حواديت محلية الصنع)، وبصفاته ووصفه الخارجي في قصة (الغريب).
2. الشخصيات والتعقيد الإنساني:
الشخصيات في المجموعة تنتمي إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وهي شخصيات متواضعة تعيش صراعات يومية مع الفقر. الكاتب يجعل شخصياته تنبض بالحياة من خلال تصوير مشاعرهم، خيباتهم، وطموحاتهم البسيطة. هذه الشخصيات ليست مثالية، بل تمتلك عيوبًا وتعيش تناقضات تعكس ضعف الإنسان في مواجهة المجتمع، وهو ما يتماشى مع الأسلوب الواقعي الذي يرصد شخصياته دون انحياز أو تزييف، ترك لك أيها القارئ حرية كاملة في حكمك على الشخصيات، فقط جعلك تسمعهم هم، لا تسمع عنهم؛ فجعل عشرة حواديت بلسان الراوي المشارك وأزال تماما المسافة بينك وبين شخوصه، وأحاسيسهم وآلامهم وحتى أفكارهم، وقدم ستة حواديت بلسان الراوي العليم إما لأن بطله منطقيا غير قادر على التعبير عن ذاته ودواخله، والحكاية أكبر من مجرد مشاعر وإنما حكاية كبيرة مأساة كأن تكون كلبا أو أن تحكي عن مأساة ممتدة عبر التاريخ كمأساة صابر التي شكلت وجدان مجتمع، أو حديثه في قصة أمل التي تصور أزمة مجتمع ومعاناة يومية نمر بها دائما ويوميا.
وقد تنوعت شخصياته من حيث السن والنوع والثقافة والحالة الاجتماعية والاقتصادية، كذلك لم يكن اختياره لأسماء اختياره لأسماء الشخصيات صدفة ولا بشكل عفوي، بل كان ذا دلالة مباشرة لا يخطئها قارئ، حيث يترك الاسم دلالة قوية في نفس القارئ (حازم – صابر – وحيد – بكتيريا – أمل – باسم)، أما الشخصيات التي اختار الكاتب تجهيلها فكان ذلك لسببين أحدهما أن تلك الشخصيات لها أثر سيء في الأحداث وفي نفوس الأبطال مثل مدرس الرياضيات، أو كان التجهيل لتعميم الحالة وتركيز البؤرة على الحدث التي ربما يمر به شريحة كبيرة من الناس، مثلما كان في قصص (عملات أبي – الغريب – سكن)
3. المكان كركيزة في الواقعية:
الواقعية تهتم بالمكان واعتباره جزءًا أساسيًا من تشكيل الأحداث والشخصيات. في هذه المجموعة، يتجلى المكان بأشكال متعددة، مثل الأسواق الشعبية، الشوارع، والمقاهي، حيث يعكس المكان البنية الاجتماعية والاقتصادية للشخصيات ويضفي طابعًا واقعيًا على الأحداث.
الأسواق الشعبية، على سبيل المثال، تظهر كرمز للصراع الاقتصادي وللأحلام التي يحاول الأبطال تحقيقها رغم قلة إمكاناتهم.
من خلال الوصف الدقيق للمكان أدخلك الكاتب إلى عالم شخوصه، ورطك في الأحداث، أربكك وأوجعك.. أبكاك وأضحكك، أوقفك تحت المطر، وقفز بك من السبنسة، مر بك من معدية عم صابر ووصل بك إلى شوارع الورديان الضيقة، وحشرك في الترام الأصفر حتى لفظك هناك في سوق المستعمل.. سوق الجمعة.
4. الأسلوب اللغوي والبناء الواقعي للنص:
اعتمد الكاتب اللغة الفصحى الرصينة في السرد، التي تعكس ثقافة كبيرة واستلهام لموروث لغوي قرآني وأدبي، واختار أن في لغة الحوار التنوع بين الفصحى أحيانا، حين تكون الشخصية قادرة على توصيل مشاعرها بتلك اللغة، مثل المعدية، وخوف، وأحيانا يختار العامية المناسبة لكل شخصية بما يتناسب مع بيئتها وخلفيتها الثقافية. مثال: حواديت محلية الصنع، في قلبي خروف، حيث تعتمد اللغة على ألفاظ شعبية وعلى لهجات محلية في بعض المواضع، مما يجعل السرد أقرب إلى الأسلوب الحواري الذي يعكس واقع الشخصيات وحياتها البسيطة. هذا يضفي على النص واقعية، حيث تعكس لغة الحوار طبيعة الطبقة الاجتماعية المنحدرة منها الشخصيات، وتؤكد على ابتعاد الكاتب عن التكلف والابتذال.
5. غياب الرومانسية أو المثالية:
الواقعية الأدبية تتجنب المثالية، حيث إن النصوص غالبًا ما تعكس الألم والمعاناة دون محاولة تلطيف المشهد أو إبراز الحلول المثالية. في هذه المجموعة، لا يجد القارئ نهاية سعيدة دائمًا، بل يتم تصوير الصراع مع الفقر والحاجة بشكل حقيقي قد ينتهي بخيبة الأمل أحيانًا. هذا يظهر مثلاً في صعوبة تحقيق الشخصيات لأحلامها بسبب محدودية مواردها، ليجسد بذلك الكاتب واقعًا مريرًا معتادًا على هذه الشخصيات؛ حيث لم يخلف توقعي لأي نهاية من نهايات القصص مما يؤكد صدق واقعيتها، وبعدها عن التكلف والزخرف الفني.
6. الرسالة الواقعية:
الواقعية الأدبية غالبًا تحمل رسالة تبرز الصراع الطبقي والاجتماعي، وتحثّ القارئ على التفكير في أسباب هذا التفاوت. قصص حواديت محلية الصنع تعكس هذه الرسالة من خلال تسليط الضوء على حياة البسطاء ومعاناتهم اليومية. كما تعكس القصص آمالهم الصغيرة وصراعاتهم من أجل تحقيق حياة كريمة، مما يحث القارئ على التفكير في الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تحكم هؤلاء الأفراد.
ولتوصيل حالة الصراع استخدم الكاتب كثيرا حالة المقابلة بين الطبقات المختلفة في المجتمع، مصورا شعورا عميقا بالحنق المشحونة به بعض النفوس تجاه الطبقات الأعلى، ورغم سلبية هذا الشعور وذلك السلوك المترتب عليه، إلا أنه جزء من واقع لا يمكن تجاهله.
وقد استطاع الكاتب بكل التقنيات والوسائل أن ينقل الرسالة، ولكن في بعض المواضع كنت أنتظر شيئا من التوازن في المشاعر الذي يضفي حالة من الطبيعية، كشعور امتنان مثلا من الطفل وأبيه لصاحب الدراجة الذي اختار ألا يبيعها، وأن يهديها للطفل الفقير المتفوق.
7. البنية الفنية:
لم تخضع الحواديت لبنية ثابتة، غير أنها التزمت بالسير الخطي للأحداث دون استباقات أو استرجاعات، شأنها في ذلك شأن الحكايات والحواديت الشعبية، ومنها ما قام بالكامل على الحوار فقط مثل قصة (خوف) أو ما قام على تعدد الأصوات الساردة مثل قصة (الشيخ أحمد) والتي حملت طابعا فلكلوريا ميثولوجيا، ناسبتها تلك التقنية لتساعد على طرح التساؤلات في ذهن القارئ بعد شحن ذهن المتلقي بعدة أصوات متباينة في خلفياتها مازالت تؤمن بالخرافات وكرامات الأولياء.
البنية التي قامت عليها النصوص ترشحها وبقوة لأن تكون حكايات وحواديت لا قصصا كما هو مصنف على الغلاف الخارجي.
الخلاصة: في ضوء مذهب الواقعية، تعتبر مجموعة حواديت محلية الصنع تجسيدًا بارزًا للواقع الاجتماعي المصري. فقد تميزت بتقديم رؤية نقدية للواقع دون تجميل أو زيف، باستخدام لغة قريبة من الواقع، وحافظت على عمق إنساني للشخصيات بعيدًا عن المبالغة. تعكس القصص رؤية الكاتب لأهمية توثيق معاناة الإنسان البسيط وأحلامه المحدودة، مما يجعلها جزءًا من الأدب الواقعي الذي يهدف إلى توعية المجتمع بأحوال طبقاته الفقيرة والمهمشة.