أبطال بطعم آخر

صورة واتساب بتاريخ 1446 11 23 في 23.47.26 d2e7c1ba

أبطال بطعم آخر

بقلم الدكتورة/ بلسم أحمد القارح-

مدير متحف – السودان 

 

صورة واتساب بتاريخ 1446 11 03 في 19.22.57 4010973f


في زمنٍ انهارت فيه الجدران، وذابت فيه حدود المدينة بين بارود ودم، يظل بعض الناس شعلةً من ضوءٍ، لا تُطفأ حتى في قلب الخراب..
تلك الليلة من ليالي أبريل 2024، لم تكن عادية في مدينة أم درمان. الظلام كان أكثر من مجرد غياب الكهرباء، كان ثقيلاً، يخنق الأنفاس. لكن مديرة المشروع كانت تنتظر مكالمة. مكالمة قد تعني أمرين إما أن أحدًا من فريقها لم يعد ،أو قد تعني أن قطعة من التاريخ تم إنقاذها.
اتصل جمال. وكانت المكالمة تُسجَّل، كأن الزمن قرر أن يحفظ لحظة البطولة.
من مكالمة صوتية – إحدى ليالي أبريل – أم درمان المحاصرة
المديرة:
جمال… الصوت واضح؟
جمال (بصوت خافت ممزوج بالغبار والتعب):
سامعك تمام يا مديرة… لسه راجعين من متحف بيت الخليفة… دخلناه أخيرًا.
المديرة (بتنهيدة):
بيت الخليفة؟ في قلب أم درمان؟! كنت اعتقد أن مستحيل تقدروا تقربوا منه… الدانات، والقناصة، والاشتباكات لا تهدأ هناك.
جمال:
ما كان سهل… دخلناه تحت قصف متقطع، وشبيلي كاد يصاب برصاصة قناصة عند البوابة… عثمان سبقنا بعمل جرد سريع، وأنا مشيت أصوّر المقتنيات القديمة…وصل شبيلي بحمد الله واعتلى السطح يراقب، والجيش كان يؤمن الطريق الخلفي ونجح كذلك في الإطاحة بالقناصة.
المديرة (بصوت مشوب بالحزن والفخر)
يا جماعة… عمل بطولي. بيت الخليفة مش مجرد متحف،ده قلب التاريخ في أم درمان. وجودكم هناك كبير معنويًا.
جمال:
عارفين قيمته، عشان كده خاطرنا. لكن في الخرطوم… متحف السودان القومي؟كان مستحيل نخشه تحت ظلال النيران. ما قدرنا ندخله إلا بعد ما سكت الرصاص وانتهت العمليات في العاصمة.
المديرة (بأسى)
والمقتنيات؟
جمال:
كتير منها اختفى. سُرقت،دمرت
المديرة (بصوت متهدج)
لكن نحن ما حننهزم… نوثق، نحفظ، ونقاوم بطريقتنا. وجودكم في بيت الخليفة اليوم رسالة: أن الثقافة لن تموت، حتى لو اشتعلت الدنيا نار. المديرة (بقلق وحنان الأم):
أنا فخورة بيكم… أنتو ما بس بتحرسوا الآثار، أنتو بتحموا الذاكرة دي كلها. كل تقرير نرسله للعالم مبني على صمودكم.
جمال (ضاحكًا رغم التعب):
صدقيني، المتاحف أصبحت زميلة كفاحنا… مرة بنحكي ليها آهاتنا ، و مرة نقرأ على صمودها خريطة الزمن الكان والجاي.
المديرة (بصوت منخفض)
أعرف تمامًا أنو الوجع ما بتوصف، لكن وجودكم جوّاه هو المعنى الحقيقي للبطولة. لما الدنيا تهدى، حنكتب عنكم فصل كامل في تاريخ السودان الثقافي.
جمال:
ما محتاجين فصل… بس محتاجين الناس تعرف إنه في رجال ونساء قرروا ما يخلوا النهب يغلبهم. إحنا هنا عشان نكمل حكاية جدودنا.
المديرة (بدمعة مخنوقة)
وأنتو كملتو… وزرعتوا المعنى في صمت الحجارة
جمال:
ونحن مستمرين،يا مديرة… لأجل السودان، وتاريخه، وأرواح الناس البتحرس ذاكرته.
أمثالك ولأجل كل متحف، ولكل قطعة حجر طين تمثل حضارتنا، وكل ورقة قديمة من مخطوطة كنسية كانت تُخبّأ من الرصاص. في كل مرة يُقصف فيها حي، وفي كل سؤال كنت تسأليه “وين المتحف؟ وين الكنيسة القديمة؟ وين ضريح الولي الصالح؟” وين الطابية المقابلة النيل
وفي كل مرة كنت تحكي، وتوثقي، وتُحمّلي ذاكرته ما عجزت الكاميرات عن تصويره.
حاشية خاصة… (حتى لو سقطت المدن)
سنظل نكتب البطولات لأنها الحقيقة التي لم تهرب من النار… بل كانت تركض نحوها أحيانًا، حاملة ذاكرة بلد، وتراث شعب، وأمل أمة.
وهذه المكالمة واحدة من مئات الحكايات التي لم تُكتب بعد.

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *