
البجراوية : نبضة واحدة
بقلم الدكتورة/ بلسم عبد الحميد احمد القارح
مدير مكتب الأثارالاقليمي -البحر الأحمر
مدير متحف البحر الأحمر للآثار والتراث- السودان

على الضفة الشرقية لنهر النيل العظيم، وعلى بُعد 220 كيلومترًا شمال الخرطوم، تمتد أرض البجراوية، واحدة من أكثر المواقع الأثرية أهمية في السودان القديم، وحاضنة أسرار حضارة مروية ضاربة في أعماق التاريخ.
هنا، حيث تتلاطم الرمال مع نسيم النيل العليل، تقف مجموعة المقابر الملكية شامخة فوق تلال منخفضة، موزعة بين شمال الموقع وجنوبه، تحرسها السهول الفسيحة التي تمتد شرقًا لمسافة أربعة كيلومترات. في هذا الفضاء المفتوح، تشهد الأرض على عبقرية الإنسان السوداني القديم في تخطيط المدن وتشييد المعابد وبناء أنظمة متطورة لإدارة المياه، حيث تنتصب أطلال الحفيرات والمعابد الضخمة، إضافة إلى مقابر أخرى مخصصة للسكان الأقل ثراءً.
البجراوية: مركز سياسي وديني نابض
كانت البجراوية القلب النابض لمملكة مروي، إحدى أقوى الممالك التي نشأت في وادي النيل بعد انحسار نفوذ الفراعنة. حملت المدينة في طياتها وظيفة سياسية ودينية وتجارية مهمة؛ إذ كانت مقراً للملوك والملكات، ومركزًا لعبادة الآلهة. وفي أروقة معابدها ونقوش أهراماتها، تجسد حب الإنسان السوداني القديم للحياة، وإيمانه بالبعث والخلود.
معمار مميز يجمع بين الأصالة والابتكار:
تتميز أهرامات البجراوية بتصاميمها الفريدة، فهي أصغر حجمًا وأكثر انحدارًا مقارنة بنظيراتها في الجيزة، مما يعكس هوية معمارية مروية خالصة. وقد بُنيت بعناية فائقة باستخدام الحجارة المحلية، وزُينت مداخلها بنقوش دقيقة تمثل مشاهد دينية وحياتية.
كما يكشف الحفير الذي شُيد لجمع مياه الأمطار عن فهم متقدم للهندسة الهيدرولوجية لدى سكان المنطقة.
عندما رافقت سائحين من الأندلس…
في إحدى رحلاتي، كنت أقود مجموعة من السائحين الإسبان نحو البجراوية. خيمنا خلف الأهرامات الشمالية، وكانت الرمال تحتضنها في هدوء مهيب. بدأنا يومنا مع شروق الشمس من جهة المزارع، وكانت الألوان تتبدل بين خضرة الزرع وتفتح الزهور، وكأن الطبيعة تنشد لنا نشيد الصباح.
امتطينا الجمال، وجبنا السفح بين الأهرامات الشمالية والجنوبية، ننهل من روح الجمال وهدوء المكان. ثم سرنا نحو المدينة الملكية، حيث شاهدنا تنوع المعابد المكرسة لآلهة عدة مثل آمون وآلهة محلية أخرى، في مشهد يعكس تسامحًا دينيًا نادرًا في العالم القديم.
تجولنا في الكشك المروي والحمام المروي بطرازهما الروماني الفريد، قبل أن نعود إلى جوار الأهرامات لنشهد غروب الشمس. كان مشهدًا بديعًا، وكأن الأجداد أرادوا أن يعلمونا أن الأرض، والنيل، والزراعة، هي مثلث الحياة ومصدر الإشراق، وأن الموت – رغم عظمته – ليس إلا غروبًا، غيابًا مؤقتًا في دورة الوجود.
حتى وإن شيدوا مظاهر البهاء والخلود في بيوتهم الأبدية، فإنها تبقى قبورًا، وتبقى أفولاً… لكن أفول الشمس عند الأهرامات ليس سوى سطر من الأنس، ولحظة تأمل تجول في النفس مجال النفس.
كان رفيقي في هذه الرحلة زوجًا من الأندلسيين، منحاني محبة صادقة أعادتني إلى مجدنا القديم في بلادهم التي كانت لنا يومًا. غمرني الحنين، فأنشدت لهما موشحًا أندلسيًا في حب بلادي، تلك البلاد التي أرجو أن تبقى لي، دائمًا وأبدًا. وفي لحظة سكون خاشعة، وجدتني أُشيد بفخرٍ بلغة الضاد، وأردد بيتًا بدويًا للشاعر الصمة القشيري:
بروحي تلك الأرض ما أطيبَ الرُبى وما أحسنَ المصطافَ والمُتربّعا”
رددت البيت وأنا أراهما – ذاك الزوج الأندلسي – يعجبان بما أقول، وإن لم يدركا معناه، فقد بلغتهما نغمة الفخر والحنين في صوتي.ثم ارتجلت، وقد غمرني عشق الوطن:
بروحي أرضك يا سودانُ، قد هامَ في عشقِك المسافرانِ عربُ الملامحِ، من بيت أندلسي، لكنهم قالوا نحنُ الإسبانِ
كانت تلك اللحظة بالنسبة لي خلاصة الرحلة، حين اجتمع الشعر والتاريخ، مجد العروبة الآفل ،الروح والرمال، والسودان كله في نبضة واحدة.