العَنقَريب

WhatsApp Image 2025 02 27 at 19.22.17 8de80561

العَنقَريب

بقلم الدكتورة/ بلسم عبد الحميد احمد القارح

مدير مكتب الأثارالاقليمي -البحر الأحمر

مدير متحف البحر الأحمر للآثار والتراث- السودان 

 

WhatsApp Image 2025 02 21 at 05.57.01 c2e88c2d

العَنقَريب 


 مدخل 

عرش الراحة وطقوس العبور، تحفةٌ شاهدة على لحظات الفرح والفقد، تفوح بعطر الماضي وتروي رفاهية الحاضر

العَنقَريب بفتح العين وسكون النون وفتح القاف والراء

    في قلب التاريخ السوداني، حيث تروي الرمال أسرار الممالك القديمة، هناك قطعة أثاث تجاوزت كونها مجرد أداة للراحة، لتصبح شاهدًا على الحضارات، ومعبّرًا عن التحولات الاجتماعية والثقافية عبر العصور. إنه العنقريب، ذلك السرير التقليدي الذي حمل أجساد الملوك والملكات، واستراح عليه النبلاء والمحاربون، وشهد لحظات الانتقال بين مراحل الحياة المختلفة، من الميلاد إلى الموت.

العنقريب في حضارة كرمة: سرير النبلاء

   قبل آلاف السنين، في حضارة كرمة التي نشأت شمال السودان حوالي عام 2500 ق.م لم يكن العنقريب مجرد سرير عادي، بل كان قطعة تعكس المكانة الاجتماعية والرفاهية. صُنع من الخشب المتين ، وشُدَّ سطحه بالجلد  ليكون رمزًا للراحة والفخامة يظهر ذلك العناقريب الأثرية التي وجد ت في مقابر شخصيات مهمة في إدارة الدولة كانت تستلقي على العنقريب مما يعكس أهميته في الحياة اليومية. لم يقتصر استخدامه على النوم، بل كان جزءًا من الطقوس والمناسبات الخاصة، مما يوضح عمق دوره في المجتمع كانت أرجل العنقريب تصنع على هيئة أرجل ثور أو أسد، وتوضع على وسادة خشبية للرأس، مع مروحة من ريش النعام وحذاء جلدي بجانبه، إضافة إلى بعض الأواني الفاخرة التي تحمل الطعام والمشروبات، بالإضافة إلى قوارير العطور الفخارية التي تُعتبر جزءًا من الزخارف المتكاملة التي ترافق العنقريب.

العنقريب والكنداكات: عرش الراحة والسلطة

   لم يكن العنقريب مجرد أداة منزلية، بل كان عرشًا ملكيًا في أزمنة القوة والسيادة، حيث استلقت عليه الكنداكات، الملكات المحاربات اللاتي حكمن ممالك كوش بكل هيبة وعظمة. كان الكنداكات يجلسن على العنقريب في القصور، يقدن مجالس الحكم، يجلسن عليه بوقار، يرسمن مستقبل شعوبهن ويتخذن القرارات المصيرية التي شكلت تاريخ المنطقة. وكما كان السرير رمزًا للراحة، كان أيضًا منصة للسلطة.

العنقريب عبر العصور: من المجد الملكي إلى الحياة اليومية

   مع تعاقب العصور، ظل العنقريب جزءًا من الهوية السودانية، متكيفًا مع التحولات الاجتماعية والدينية. بعد سقوط حضارة كرمة وازدهار الممالك المسيحية في السودان، احتفظ العنقريب بمكانته، لكنه شهد تطورات في التصميم والزخرفة. وفي العصور الإسلامية، أُدخلت عليه أنماط جديدة من الزخارف الخشبية والنقوش المستوحاة من الفن الإسلامي، ليظل حاضرًا في البيوت، والتكايا، والمجالس العامة.

طقوس العبور: العنقريب في المناسبات السودانية

  لم يكن العنقريب مجرد سرير للنوم، بل كان جزءًا من طقوس العبور في المجتمع السوداني، حيث يرتبط بالمناسبات الاجتماعية والانتقالية في حياة الأفراد. في الجرتق، وهو طقس الزواج التقليدي، يجلس العروسان على العنقريب، وسط طقوس تحاكي رمزية الاستقرار والبركة. وفي ختان الذكور، يُستخدم العنقريب خلال الاحتفالات كرمز للنضوج والانتقال إلى مرحلة الرجولة. وحتى في الموت، لا يزال العنقريب جزءًا من تقاليد نقل المتوفين إلى مثواهم الأخير، حيث يُحمل الجثمان عليه، تعبيرًا عن احترام الموروث الثقافي.

العنقريب في العصر الحديث: هوية متجددة

   رغم التطورات السريعة في أنماط الحياة، لم يفقد العنقريب مكانته في المجتمع السوداني. لا تزال المنازل الريفية تحافظ عليه كقطعة أساسية، وخاصة في الليالي الدافئة ، بل أصبح جزءًا من الديكور التراثي حتى في المدن الكبرى ، يتميز العنقريب الحديث بألوانه الزاهية وزخارفه المتنوعة، ليعكس روح الأصالة والحداثة في آنٍ واحد. ومع انتشار الوعي الثقافي، أصبح استخدام العنقريب يعبر عن الاعتزاز بالجذور والتاريخ.

خاتمة: العنقريب.. ذاكرة السودان الحية

من قاعات قصور الكنداكات إلى بيوت القرى السودانية، يظل العنقريب شاهدًا على تطور المجتمع السوداني، يحمل في طياته قصص الأجداد، ويحافظ على طقوس العبور التي تشكل هوية هذا الوطن. من خلال تطور العنقريب عبر العصور المختلفة، يظهر أنه كان ولا يزال عنصرًا محوريًا في الحياة اليومية للسودانيين، بدءًا من حضارة كرمة وصولاً إلى الزمن الحاضر. رغم كل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، يظل العنقريب رمزًا للتراث السوداني وأداة للتواصل بين الأجيال، يحمل في طياته قصصًا عن راحة البال والموروث الثقافي الذي يربط الأفراد بأصولهم الحضارية هو جسر بين الماضي والحاضر، ورمز يُجسد ارتباط السودانيين بتراثهم العريق، واحتفائهم بموروثهم الثقافي الذي لا يزال نابضًا بالحياة.

 

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *