
الكتابة المعيارية
بقلم الكاتبة الأردنية / زينب السعود

الكتابة الإبداعية من المهارات التي لا نستطيع أن نحكم بيقين أنها موهبة خلقت مع الكاتب أو ملكة مكتسبة بالتعلم والتدرب والملاحظة وأمور أخرى كثيرة . فالموهبة والإبداع المنغرس في ذات الشخص جزء هام منها ولكن التدرب والممارسة والتواصل المستمر مع النصوص والكتب والقراءة بنهم موسوعي له عامل كبير أيضا في إبراز موهبة الكتابة الإبداعية وصقلها إلى ان يصل الكاتب إلى تكريس تعريف خاص به لعملية الإبداع والتفنن التي يمارسها بقلمه من خلال ما امتلكه من أدوات المعرفة والثقافة واللغة قبل كل شيء . والحديث عن اللغة يثير الشجون مع ما نصطدم به من رداءة في استعمالها شفاهة أوتدوينا ، فالكتابة الجيدة تحتاج إلى امتلاك رصيد لغوي جيد وامتلاء عقل الكاتب بمعجمية لا بأس بها تسمح لقلمه التنقل بين مقامات الكلام والقفز من جملة إلى أخرى والمفاضلة بين الألفاظ ترادفا وتضادا بحيث يرشح للمعنى المراد اللفظ المناسب لحمله والتحليق به إلى فضاء الدلالة الواسع . ربما هذا يذكرنا بقضية اللفظ والمعنى التي تداولها اللغويين بحماسة وغيرة لغويتين شديدتين في عصور كانت الكلمة هي السيف والمنبر وكامل العدة .
في عصرنا الحالي تضج وسائل التواصل بالحسابات ذات المحتوى الذي يتطلب التخاطب مع الجمهور بجمل جاذبة ومؤثرة ولكن امثالي ممن يتخندقون في خندق الجودة اللغوية العالية لا يمكنهم أن ينجذبوا أو يتأثروا من جمل غالبيتها معتلة في بنائها ركيكة في ألفاظها مكرسة للضعف اللغوي باستخدامها الخاطئ لألفاظ في غير محلها وتعبيرها عن محتواها بمفردات فقيرة في المعنى لا تجترح الخيال وتبقي العقل محبوسا في أفق المعنى الضيق .
إن إحدى وظائف اللغة الإبداعية السامية الوصول بقريحة المتلقي إلى عالم منفتح بخيال واسع يشبه ذلك الضوء الذي يعكس الصورة الداكنة أو الشفافة على الشاشة بوضوح والذي أطلق عليه أصحاب العلوم التطبيقية المخيال ، ثم رأى أهل اللغة والأدب فيه تعبيرا مقاربا لما تحدثه الجملة المسبوكة باقتدار في النفس من أثر ورعشة في المشاعر .واللغة العربية لغة سيميائية بامتياز ، وقد سبق علماء الدلالة من اللغوين العرب امبرتو إيكو وروسي لاندي وغيرهما في الحديث عن إشارة اللغة الدلالية إلى ثيمات معينة في المجتمع ، بكافة ما ينتج عن أفراده من تحركات في جانب الفكر والاجتماع والسياسة .وقد تناول فقهاء اللغة قديما علم الدلالة الذي يبحث في نظرية المعنى المصاحبة للتقلبات الصرفية التي تطرأ على الكلمة في تعدد سياقاتها التعبيرية .وبين الدلالة وسيمياء العلامات تبدو الخيوط متصلة فهي اختلاف ظاهر في المسميات ولكنها تعود في أصلها إلى التماهي مع اللفظ وما يختبئ خلفه من معان ودلالات وإحالات . وبالعودة إلى الحديث عن الكتابة التي يحاول الكثير ادعاء امتلاك أدواتها عبر نصوص هزيلة تحظى بالتصفيق ممن لا يعرفون معايير الجودة اللغوية أو ممن يعرفون ويفضلون الصمت عن الرداءة وليتهم فقط يصمتون عن عبارت المديح الزائف والمجاملة التي أوردت الثقافة واللغة التهلكة حتى صرنا نتغاضى عن الأخطاء الإملائية الفجة التي تقتحم أعيننا كل يوم على شاشات التواصل ولو كان الخطأ في كلمة انجليزية لضج المستنكرون والمصححون .
إن تعلم مبادئ الكتابة الإبداعية المؤثرة أمر متاح للجميع ولكنه لن يحدث بين يوم وليلة ولن يكون نتيجة قراءة الأدب المترجم مثلا ولو حتى الكثير منه ولن يأتي كثمرة بعد قراءة الروايات ، ولكنه حتما يحتاج إلى الرجوع إلى أمهات الكتب اللغوية الميسرة التي تتحدث عن اللغة العربية وفقهها وتشرح الفيزياء والكيمياء التي يقوم عليها البناء اللغوي ، والقراءة لعلماء اللغة والتشرب لطريقة فهمهم للغة كالجاحظ مثلا ، وقراءة الشعر العربي الذي خلد اللغة وقبل هذا وذاك الاقتراب قراءة وفهما من النص اللغوي الأسمى القرآن الكريم ، هذه كلها أساسيات تضعنا في حالة تصور حقيقي لعالم الكتابة المبدعة ، والتي ننطلق منها لصناعة أسلوبنا الخاص الذي يستند إلى قوة لغوية تسمح لنا بصولات وجولات بين الجمل والعبارات ممتلكين لعنان الأساليب لنتمكن حينها من ممارسة التأثير الذي نريد .فاللغة هي صاحبة الأثر الباقي لأنها الأقدر على حمل المعنى السامي ، أما الكتابة على أسلوب القص واللصق الذي يمارسه البعض الآن فهو زوبعة عابرة التأثير .