
الملكة نفرتيتي: الغموض، والجمال، والسلطة في مصر القديمة
تقديم الدكتور / حسين عبدالبصير- عالم الآثار المصرية و مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية

الملكة نفرتيتي، واحدة من أعظم وأشهر ملكات مصر القديمة، تمثل أيقونة للجمال والقوة والغموض. حكمت بجانب زوجها الملك إخناتون خلال فترة العمارنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهي فترة شهدت تغييرات جذرية في الديانة والفن والسياسة. ومع ذلك، لا تزال حياتها ونهايتها تثير الكثير من التساؤلات، مما يجعلها شخصية مثيرة للجدل والدراسة.
أصل نفرتيتي وغموض نسبها
أثار بعض الباحثين الجدل عن أصل نفرتيتي، فقد افترضهم بعضهم نظريات غريبة تدعي أنها أميرة أجنبية من ميتاني أو الحيثيين. غير أن الحقيقة تشير إلى أنها ابنة أحد كبار المسؤولين في البلاط الملكي، وهو الأب الإلهي، آي، الذي أصبح فرعونًا لاحقًا. وبرزت نفرتيتي كشخصية ملكية قوية لا تقل تأثيرًا عن زوجها أخناتون.
الملكة التي حكمت بجانب فرعون ثوري
تزوجت نفرتيتي من أمنحتب الرابع، الذي غيّر اسمه لاحقًا إلى أخناتون وأعلن ثورته الدينية التي تمثلت في عبادة الإله آتون، وإهمال المعتقدات التقليدية المصرية. شاركت نفرتيتي في تلك الثورة الدينية بفعالية، حيث تظهر في المناظر والأعمال النحتية وهي تؤدي طقوس العبادة إلى جانب أخناتون، ما يشير إلى مكانتها الكبيرة في الحكم.
كانت نفرتيتي أكثر من مجرد زوجة للفرعون، بل كانت شريكته في الحكم. ويعتقد بعض الباحثين أنها ربما كانت الحاكمة الفعلية لفترة، خاصة عندما بدأ نفوذ أخناتون يتراجع في السنوات الأخيرة من حكمه. ويُعتقد أن دورها السياسي تجاوز حدود التقليد المتعارف عليه للملكات في مصر القديم؛ فأغلب الظن أنها حكمت مصر بالمشاركة من أخناتون أو بعد رحيله لفترة قصيرة.
التمثيل الفني المميز لنفرتيتي
يعد تمثال نفرتيتي النصفي المصنوع من الحجر الجيري والمحفوظ في متحف برلين واحدًا من أشهر الأعمال الفنية في العالم. يتميز التمثال بجماله الفريد وتفاصيله الدقيقة، مما جعل نفرتيتي رمزًا خالدًا للجمال والأنوثة في العالم القديم والمعاصر.
تعكس التماثيل والجداريات التي تصور نفرتيتي أسلوب الفن العمارني المبتكر، والذي تميز بواقعية أكبر في تصوير ملامح الوجه والجسد، بعيدًا عن الصرامة التقليدية للفن المصري السابق. وظهرت نفرتيتي في العديد من المشاهد الرسمية وهي تمارس مهام الحكم، مما يدل على قوتها ودورها غير المعتاد لملكة مصرية.
اختفاؤها الغامض ونظريات حول مصيرها
يُعد اختفاء نفرتيتي من السجلات التاريخية لغزًا كبيرًا. فبعد حوالي 16 عامًا من حكم أخناتون، لم تعد تظهر في النقوش، مما دفع المؤرخين إلى طرح عدة نظريات حول مصيرها:
1. أنها ماتت فجأة: ربما بسبب الطاعون الذي اجتاح مصر في ذلك الوقت.
2. أنها نُفيت أو سقطت من السلطة: بسبب تغيرات سياسية داخل القصر الملكي.
3. أنها أصبحت فرعونًا تحت اسم آخر: بعض الباحثين يقترحون أنها تولت العرش تحت اسم “نفر نفرو آتون”، لفترة وجيزة قبل توت عنخ آمون.
لكن إلى اليوم، لم يتم العثور على مومياء مؤكدة لنفرتيتي، رغم العديد من المحاولات لاكتشاف مقبرتها.
إرث نفرتيتي وتأثيرها عبر التاريخ
تركز تأثير نفرتيتي في عدة مجالات، أبرزها:
• الثورة الدينية والفنية: ساهمت في تشكيل هوية مصر خلال فترة العمارنة، وظهرت كرمز للحداثة والتغيير.
• تمكين المرأة في الحكم: كان دورها نموذجًا للملكة القوية، ومهد الطريق لملكات مثل حتشبسوت وكليوباترا.
• الرمزية الثقافية: أصبح تمثالها أيقونة للجمال الملكي والسلطة الأنثوية، وما زال يُلهم الباحثين والفنانين إلى اليوم.
خاتمة
تبقى الملكة نفرتيتي شخصية استثنائية في التاريخ المصري القديم، تجسد القوة والأنوثة والغموض. وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة آلاف عام على عصرها، لا يزال اسمها يتردد، وتمثالها يثير الإعجاب، وقصتها تلهم الملايين حول العالم. وما زالت رحلة البحث عن تفاصيل حياتها ونهايتها مستمرة، مما يجعلها واحدة من أعظم الألغاز في تاريخ الحضارة المصرية.