
حكايات أعماق سواكن: مغامرة كنداكة السودان بين الأمواج والأطلال
بقلم دكتورة / بلسم القارح
مدير مكتب الأثارالإقليمي -البحر الأحمر
مدير متحف البحر الأحمر للآثار والتراث
-السودان

كنداكة السودان: رمز القوة والقيادة النسائية في الحضارة النوبية، عنوان يُخلّد النساء العظيمات اللاتي حكمن ممالك النوبة القديمة. واليوم، تحمل هذه الكلمة إرثًا يعبر عن الفخر والهوية السودانية. وفي هذا المقال، أشارككم مغامرتي ككنداكة حديثة، مستكشفة أسرار أعماق سواكن بين الأمواج والأطلال.
جزيرة المذاهب
منظر جوي لجزيرة سواكن 1930م، واحدة من أهم الموانئ الرئيسية التي تعود إلى فترات العصور الوسطى – الحديثة على ساحل البحر الأحمر و إحدى أهم نقاط التجارة البحرية في العالم حيث تمثل حلقة وصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي. تقع بين (¯19 7°) شمالاً، و(¯37 20°) شرقاً، وتربط سواحل البحر الأحمر بالسودان وأفريقيا حيث تبعد من السويس(720) ميلا ومن جدة(200) ميل ومن مصوع (285) وعيذاب (1.349) ميل وبربر (247) ميل وطوكر(56) ميل من كسلا عن طريق طوكر (298) ميل. لها خريطة دائرية بنيت الطرقات وخططت المباني لتلاءم تلك الطبيعة ، تحيط بها تحصينات اقميت عام 1890م ذات مدخل حصين، وتحتوي عمارتها المدنية على المنازل وقصر القوافل والمباني الإدارية أما عمارتها الدينية فتضم المساجد والزوايا والقباب وقد اطلقتت عليها لقب جزيرة المذاهب نسبة لاحتوائها على مباني دينية لكل المذاهب الأربعة قلما توجد في مكان معا لتهب الجزيرة الطابع الديني بالإضافة للطابع الإداري واختيار الصفوة من الدولة والعامة والأسر الكبيرة وكبار التجار للسكنى فيها وتتمثل العمارة العسكرية في الحصون والقلاع والبوابات وهي تمتاز بالزخارف الفنية الإسلامية وحلية المنازل المغطاة بالجص وتكون على أشكال هندسية ونباتية والنوافذ الخشبية الممتدة للخارج وتسمى محليا بالروشان (المشربية) والتي تتميز باختلاف كل واحدة عن البقية كأنما كل واحدة تمثل لوحة متفردة وهي تحتضن العديد من الأسرار والكنوز الأثرية التي تعكس تاريخًا طويلًا من التجارة، والثقافة، والتفاعل الإنساني بين الشعوب. خلال عمليات المسح الأثري، وجدنا بقايا غارقة، أدوات تجارية، وأجزاء من أواني فخارية كانت تُستخدم في التجارة عبر البحر الأحمر. هذه الاكتشافات تعطينا لمحة عن الدور الذي لعبته سواكن كمحور للتجارة بين إفريقيا وآسيا وأوروبا.
تجربتي في العمل الأثري تحت الماء في سواكن :
مجال العمل الأثري تحت الماء في وهو مجال مثير يمزج بين المغامرة , العلم والعمل . كان المسح الذي تم عام 2003 هو أول مسح للآثار البحرية يتم إجراؤه على ساحل البحر الأحمر، وذلك بهدف حمايته. ورغم أنه كان تجربة محدودة، إلا أنه كان متعة كبيرة بالنسبة لي عندما كنت تحت الماء.
البداية: تحدي جديد واستكشاف غير مألوف
حين قررت خوض تجربة العمل الأثري تحت الماء، كنت أعلم أن الأمر سيكون مختلفًا عن أي عمل أثري آخر. الغوص نفسه يتطلب في مهارات خاصة، لكن العمل تحت الماء يضيف تحديات فريدة: من محدودية الوقت بسبب عوامل الأمان إلى صعوبة التنقيب وتحليل القطع الأثرية بيئة غير مستقرة. ورغم هذه التحديات، فإن الشغف بالكشف عن تاريخنا المشترك كان دافعي الأكبر.وخاصة أنني لم أتعلم السباحة.
التحديات التقنية والبيئية
كان علينا مواجهة تحديات عدة أثناء العمل. الرؤية تحت الماء كانت محدودة في بعض الأحيان، خاصة بعد العواصف مما اضطرنا إلى تحين المناخ المناسب والتمهل في الزمن كان عامل ذو حدين حيث إن احتمال أن المياه قد تسحب القطعة إلى مكان آخر كذلك فإن المحافظة على سلامة القطعة الأثرية عند استخراجها كان أمرًا يتطلب حرصًا شديدًا، إذ أن ملوحة البحر قد أثرت على جزء من القطعة وجعلتها هشة للغاية.
العمل
كان الهدف الرئيسي هو إجراء مسوحات أولية في عدد محدود نسبيًا من المواقع لتقييم إمكانيات
منطقة سواكن لإجراء تحقيقات أكثر ً تفصيلا في المواسم القادمة بدأ بعمل مسح قبالة الرصيف بجانب دار الجمارك. ُ حيث وجد أن الرؤية تحت عمق 3أمتار كانت ضعيفة، تأكد منه أن الجزيرة محاطة بحطام المباني، و أرصفة قديمة مدفونة تحت هياكل أرصفة لاحقة. قام الفريق بالغوص على الجانب الجنوبي من جزيرة المدينة, تم العثور على زجاجة كبيرة بحالة شبه مثالية، وتم رفعها ونقلها إلى مقر التنقيب لمزيد من المعالجة بالإضافة لفحص حواف الأرصفة الحديثة. كما أُجريت تحقيقات أخرى في قناة الميناء الخارجي قبالة جزيرة الكوندينسر، مما وفر معلومات عن التكوين الجيومورفولوجي للجزر وأشار إلى عملية تكوينها، سواء الطبيعية أو من صنع الإنسان. تم إجراء فحص في المياه الضحلة في نقاط حول المحيط الجنوبي الشرقي إلى الجنوبي الغربي لجزيرة المدينة، بدءًا من منطقة البنك المصري ً وصولا إلى الجسر.تبين أن هذه المنطقة تحتوي ً أيضا على الكثير من الحطام الحديث الظاهر، لكن لم يكن أي منه ً واضحا أنه أقدم من أوائل القرن العشرين. وقد كان يُعتقد أن معظم المواد الأقدم قد غُطيت الآن بالترسبات الناتجة عن الجريان السطحي إلى البحيرة. وسيكون من الضروري إجراء تحقيقات إضافية، بما في ذلك المسح بالسونار، لتحديد ما إذا كانت المواد الأقدم محفوظة في هذه الظروف.
تــــم الكشـــــف عـــــن مجموعــــة متنوعــــة مـــــن القطـــــع الأثريــــة التـــــي عُثـــــر عليهـــــا فـــــي قـــــاع البحـــــر، والتـــــي تقــــدم أدلــــة علـــــى الأنشـــــطة التجاريــــة فـــــي المينـــــاء.شـــــملت هـــــذه المكتشـــــفات الفخـــــار والخـــــزف المســـــتورد، إلـــــى جانـــــب الأدوات المعدنيـــــة مثـــــل الســــــكاكين والشـــــفرات التــــــي كانـــــت تُســـــتخدم فــــــي الحيــــــاة اليوميـــــة أو فــــــي أغــــــراض تجاريـــــة.تشــــــير بعــــــض هــــــذه الأدوات إلــــــى فتــــــرات مختلفــــــة ازدهــــــرت فيهــــــا ســــــواكن كمينـــــــاء تجــــــاري رئيســـــي ومـــــع ذلـــــك، لا تـــــزال العديـــــد مـــــن القطـــــع بحاجـــــة إلـــــى مزيـــــد مـــــن التحليـــــل لتحديـــــد أصولها الزمنية بدقة.
تمثـــــل أنـــــواع الفخـــــار المكتشـــــفة ً مؤشـــــرا ً هامـــــا علـــــى الـــــروابط التجاريـــــة الواســـــعة التـــــي كانـــــت
تـــــربط ســـــواكن بمنــــــاطق متعـــــددة. تضـــــمنت المكتشـــــفات ً أنواعـــــا مســـــتوردة مــــــن منـــــاطق بعيـــــدة
مثــــــل أوروبــــــا وآســــــيا، حيــــــث كانــــــت الأوعيــــــة الخزفيــــــة البيضـــــــاء شــــــائعة ويُعتقــــــد أن معظمهــــــا
ُجلـــــب مـــــن أوروبـــــا خـــــلال القـــــرنين التاســـــع عشـــــر والعشـــــرين. كمـــــا تـــــم العثـــــور علـــــى خـــــزف
مســــتورد مـــــن الصــــين، ممـــــا يعكـــــس وجـــــود روابـــــط تجاريــــة مباشـــــرة مـــــع شـــــرق آســــيا. بالإضـــــافة
إلـــــى ذلـــــك، كشـــــفت الحفريـــــات عـــــن أوعيـــــة حجريـــــة، يُعتقـــــد أنهـــــا كانـــــت تُســـــتخدم لتخـــــزين
مواد مثل التوابل والعطور، مما يعكس النشاط التجاري المزدهر في الميناء.
الزجاجة اللامعة
تم استخراجها من البحر في نفس الموسم بحاله جيدة فقط تحتوى على كسر بسيط في جزء علوي منها .
دعوتي للجميع (الإرث الثقافي والأمل في المستقبل )
أدعو الجميع إلى التفكير في التاريخ الذي يحيط بنا حتى في الأماكن التي لا نتوقعها، كالبيئة البحرية. فكل قطعة أثرية نجدها تحت الماء تحكي قصة أجيال مضت وتربطنا بجذورنا الإنسانية المشتركة. هذه التجربة الشخصية تسلط الضوء على الحاجة الملحة لتطوير هذا النوع من العلوم الأثرية محليًا، بما يساهم في تعزيز الجهود الوطنية الرامية إلى حماية التراث الأثري الذي يواجه تهديدات متعددة، سواء كانت ناجمة عن التغيرات البيئية أو المشاريع التنموية الكبرى. يمكننا الاستفادة من هذه الاكتشافات في تعزيز السياحة الثقافية والوعي بأهمية الحفاظ على المواقع الأثرية.
كانت تجربتي في سواكن تجربة فريدة، مليئة بالتحديات والإنجازات. وأتمنى أن يلهم هذا المقال كل من يقرأه لاستكشاف تراثنا والعمل على حمايته للأجيال القادمة.