” ذاكرة العين” بين الكابوس النفسي والوصمة الاجتماعية: قراءة ذرائعية في بنية الصراع الداخلي لقصة “ذاكرة عين” للقاصة المصرية لينة مصطفى

صورة واتساب بتاريخ 1446 11 10 في 18.15.17 c65bb6dc

" ذاكرة العين" بين الكابوس النفسي والوصمة الاجتماعية: قراءة ذرائعية في بنية الصراع الداخلي لقصة "ذاكرة عين" للقاصة المصرية لينة مصطفى

بقلم الناقدة الدكتورة/ عبير خالد يحيى

صورة واتساب بتاريخ 1446 11 10 في 18.15.17 c65bb6dc


يحمل النص بذرة قوية جدًا لفكرة سردية نفسية/فانتازية عميقة. هو يخلط بين الواقع والحلم واللاوعي بطريقة مثيرة، ويطرح تساؤلات حول الذاكرة، الهوية، والانتماء. فكرة زراعة العين وما يتبعها من رؤى مرتبطة بحياة المتبرع فكرة مبتكرة ومشحونة بالدلالة، وتفتح الباب لتأويلات كثيرة: هل الذاكرة تسكن العين؟ هل يمكن أن تنتقل التجارب والمآسي مع الأعضاء المزروعة؟ هل ما يراه رامي هو حلم، هلوسة، أو ذكريات منقولة عبر العين؟

ما نبحث عنه تحت بند الرسالة الأخلاقية هو:

القيمة العليا التي يريد النص أن يزرعها في القارئ،

أو الموقف القيمي الذي يتخذه السارد أو الشخصيات تجاه العالم.

يمكن تلخيص الرسالة الأخلاقية في المحاور التالية:

1. الضمير لا يموت حتى وإن غُرست عينان جديدتان:

القصة توحي بأن الذاكرة الأخلاقية أو الأثر النفسي للآخرين لا يمكن استبداله جراحيًا.

عيون المتبرع تنقل معه عبء الذنب، الألم، أو ربما الأمل، إلى رامي، وكأن الإنسان ليس مجرد جسد، بل كائن يحمل في داخله صدى الآخرين.

2. الهروب من الألم لا يُنقذ النفس بل يعمّق الجرح:

الزوج في الأحلام هرب من مسؤولياته (باعترافه بأنه هجر أسرته)، لكن النهاية المأساوية (حرق الأطفال، انهيار الزوجة) تكشف أن هذا الهروب كان جريمة أخلاقية عميقة.

رامي، الذي يتلقى هذه الرؤى، يصبح وكأنه وريث هذا الذنب، مما يضع أمام القارئ سؤالًا أخلاقيًا: هل يمكن للإنسان أن يتجاهل ماضيه أو ماضي الآخرين دون أن يدفع الثمن؟

3. التضامن الإنساني الخفي بين الأحياء والأموات:

التبرع بالعينين (عمل نبيل) يتحول في القصة إلى رابط وجودي بين رامي والمتبرع، بين الحياة والموت، وبين الجريمة والكفارة.

القصة تحمل دعوة ضمنية إلى الاعتراف بأن مصائر البشر متشابكة، ولا يمكننا العيش كأفراد معزولين عن آثار أفعالنا أو أفعال الآخرين.

4. الحقيقة لا تختبئ في الظاهر بل في الأعماق:

ظاهريًا، رامي شخص ناجح يعيش حياة طبيعية، لكن القصة تكشف أن عمق النفس البشرية قد يكون ساحة صراع مرير بين الوعي واللاوعي، بين الماضي والحاضر.

هذا يُحيل إلى قيمة أخلاقية تحث على مواجهة الذات، والبحث في الداخل بدلًا من الاكتفاء بالمظاهر.

إذن، الرسالة الأخلاقية العامة للنص يمكن صياغتها بهذه العبارة:

 “لا خلاص للإنسان إلا بمواجهة أشباح ماضيه، فالهروب يُراكم الألم، والضمير الجمعي بين البشر أقوى من أي محاولة للإنكار أو التجاهل.”

 سنحلل كيف تُمرَّر الرسالة الأخلاقية في القصة ذرائعيًا، أي من خلال توزيعها على الشخصيات والأحداث والسرد، بدلًا من تقديمها كوعظ مباشر:

1. رامي (الشخصية المركزية)

هو المرآة التي تنعكس فيها الرسالة الأخلاقية:

عيونه الجديدة لا تمنحه فقط البصر، بل تُحمّله ذنبًا وذاكرة لا تخصه مباشرة، مما يعكس فكرة أن البشر يحملون أوزار بعضهم ولو لم يرتكبوها بأنفسهم (ضمير جمعي).

كوابيسه المتكررة دليل على أن اللاشعور لا يقبل الصفقات؛ لا يمكن زرع عينين جديدتين دون أن “تزرع” معهما الأشباح.

تحوّله التدريجي من شخص عادي إلى شخص مشغول بالرؤى والأحلام يكشف عن العبور من السطح إلى العمق، وهي آلية ذرائعية لتمرير فكرة أن الحقيقة دائمًا في الداخل.

2. الزوجة في الحلم (الشخصية الثانوية الحاملة للذنب)

وجودها بوصفها صوتًا باكيًا معذبًا هو الوسيلة التي يعبر بها النص عن أن الضحية لا تختفي، حتى لو ماتت.

تكرار ظهورها يكرّس قيمة أن الألم 

الأخلاقي لا يموت بالنسيان، بل يتكرّر حتى يُعترف به.

تكرارها يلعب دور الناقد الضمني للشخصية التي هجرت، أي محاكمة أخلاقية متكررة.

3. الزوج (الفاعل المتسبب في المأساة)

حضوره عبر الحلم، واعترافه بأنه هرب، هو الأداة السردية التي تقول للقارئ:

الهروب لا يُنقذك، بل يجعلك مسؤولًا عن نتائج أسوأ.

اعترافه في الحلم يُعتبر نوعًا من الكفّارة، لكنه لا يُلغي الجريمة، مما يُرسّخ الرسالة القائلة إن التوبة لا تمحو الألم السابق.

4. الأحداث (الأحلام، الحريق، البكاء…)

استخدام الحريق كموت للأطفال هو مجاز قوي عن فكرة أن الأخطاء الأخلاقية تدمّر الأبرياء، وليس فقط الفاعلين.

الأحلام المتكررة هي البنية السردية التي يتم عبرها تقطير الرسالة شيئًا فشيئًا؛ فالقارئ لا يتلقاها دفعة واحدة بل يكتشفها تدريجيًا، وهو تكتيك ذرائعي يُشرك القارئ في التجربة الأخلاقية بدلًا من تلقينها.

مشهد الاستيقاظ المفاجئ من الحلم، ثم العودة إلى الحلم مرة أخرى، يُوحي أن لا مهرب من هذه الحقيقة، وهذا يُعيدنا إلى فكرة أن مواجهة الذات حتمية.

5. البنية السردية ككل

القصة تعتمد على المفارقة بين الظاهر (رامي الناجح البسيط) والباطن(الكوابيس، الذنب المتوارث)، وهذه آلية ذرائعية فعّالة جدًا لتمرير القيمة القائلة إن:

 “لا تصدق الواجهة، فالبشر مملوؤون بصراعات غير مرئية.”

إذن، السرد في هذا النص يمرر رسالته الأخلاقية عبر توزيع الشحنة الأخلاقية على الشخصيات والأحداث، وجعل القارئ يتفاعل مع النص نفسيًا وعاطفيًا، بدلًا من أن يُقال له مباشرة: “الهروب من المسؤولية خطأ.”

بهذا، تكتمل الرسالة كحركة داخل السرد وليس كخاتمة تعليمية.

رائع، الآن ننتقل إلى المستوى النفسي، وهو في هذه القصة من أغنى المستويات، لأن البناء كله يقوم على صراع داخلي وأثر الصدمة، وسأحلله لك وفق الذرائعية على النحو التالي:

1. رامي (كمركز للتحليل النفسي)

يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بشكل غير مباشر، حتى لو لم يُشر إلى ذلك صراحة. أعراضه تظهر في:

الكوابيس المتكررة: وهي العلامة الأبرز على عدم معالجة الصدمة.

الشعور بالذنب دون سبب مباشر: رامي ليس المذنب، لكنه يتماهى نفسيًا مع الذنب، خاصة بعدما أخذ العينين. هذا يسمى في علم النفس بـ internalization أي إدخال ذنب الآخر إلى الذات.

فقدان الأمان في النوم: النوم الذي يُفترض أن يكون مكان الراحة، يتحول إلى ساحة للحريق والموت، مما يدل على أن لا راحة داخلية.

2. الحلم كآلية نفسية

الحلم هنا ليس فقط عنصرًا فنيًا بل هو في الذرائعية يُعدّ النافذة المباشرة للاوعي:

الأحلام تعيد تمثيل الذنب والهروب باستمرار، وكأن العقل اللاواعي يرفض ترك الجريمة تُنسى.

شخصية الزوجة الباكية في الحلم ترمز إلى الضمير الجمعي الذي يُطارد الذات.

الحريق رمز نفسي قديم في التحليل النفسي، يعبر عن الغضب المدمر، وهنا هو غضب الضحية الذي يحرق كل شيء.

3. العيون الجديدة (كناية عن اختلاط الهويات النفسية)

استبدال عيون رامي هو صورة ذكية عن ما يسمى في الذرائعية بـ تراكب الهوية:

عينه الجسدية أصبحت وسيلة لمرور ذاكرة شخص آخر، مما يخلق داخله صراعًا هوياتيًا: من أنا؟ هل أنا رامي، أم أنا حامل لذنب رجل آخر؟

هذا التداخل العيني والنفسي يُعبّر عن أن الكائن البشري ليس وحدة صافية، بل كيان مليء ببصمات الآخر، سواء بإرادته أم لا.

4. آلية الإنكار والتكرار

رامي ينهض من النوم لكنه يعود للنوم، ليحلم مرة أخرى. في الذرائعية هذا يُقرأ كـ إنكار نفسي؛ هو يريد الهروب من الحلم، لكنه يعود إليه، مما يعكس ما يسميه فرويد بـ التكرار القهري ، أي أن الضحية تعيد مشاهدة الصدمة مرارًا، لأنها لم تُشفَ بعد.

5. اللاوعي الجمعي للقارئ

النص لا يكتفي بتحريك لاوعي رامي، بل يحرك أيضًا لاوعي القارئ:

القارئ يشعر تدريجيًا أن شيئًا خفيًا يحدث، فيتولد عنده شعور نفسي بالقلق، قبل أن يُكشف سر القصة.

هذه الآلية تخلق تواطؤًا نفسيًا بين القارئ والنص، فيشعر القارئ بأنه شريك في الكابوس، وليس مجرد متفرج.

القصة تعمل كرحلة في الطبقات النفسية العميقة:

من السطح الواعي (رامي كشخص عادي يرى أحلامًا).

إلى اللاوعي الفردي (الكوابيس، الإحساس بالذنب، الحريق).

إلى اللاوعي الجمعي (رسائل الضحية التي تهمس للقارئ أن الجريمة الجماعية لا تُنسى).

 ننتقل إلى المستوى اللغوي، وهو في الذرائعية يُدرس من حيث:

اللغة السطحية (المباشرة والوصفية)

اللغة العميقة (الرمزية والانزياحية)

الإيقاع اللغوي (النغمة، الجرس، توزيع الجمل)

1. اللغة السطحية (مباشرة وبصرية)

الكاتبة تستخدم لغة بسيطة وواضحة، تقود القارئ خطوة بخطوة في عالم رامي دون تعقيد لغوي، مما يجعل القصة قابلة للولوج سريعًا من قبل القارئ.

الأوصاف تعتمد على الحواس الخمس:

“كان ينهض مذعورًا من نومه، جسده يتصبب عرقًا” — تصوير حسي مباشر (النهضة، العرق، الذعر).

“تتصاعد ألسنة النار” — بصرية قوية تخلق مشهدًا حيًا في ذهن القارئ.

2. اللغة العميقة (الرمزية والانزياح)

انزياحات لغوية واضحة تظهر في تعبيرات الحلم:

“الزوجة تبكي بحرقة” — البكاء هنا رمزي، يمثل ضمير الزوجة لا الزوج فقط، بل ضمير رامي وضمير المجتمع.

“ألسنة النار تلتهم” — الحريق في الأحلام يُعد انزياحًا عن المعنى الحرفي، ليعبر عن الغضب والتطهير بالنار (كما في اللاوعي الجمعي).

الكاتبة تستعمل تكرار الحلم كوسيلة لغوية تكرارية، تخلق شعورًا دائريًا لدى القارئ، كأن الكلمات نفسها تعود وتدور.

3. الإيقاع اللغوي (نغمة القصة وجَرْسها)

الجمل قصيرة غالبًا، خاصة حين تصف فعل الاستيقاظ أو الهلع:

“كان ينهض مذعورًا… يتصبب عرقًا… قلبه يخفق بشدة.”

هذا التقطيع بالجمل القصيرة يخلق إيقاعًا متسارعًا يتناسب مع القلق والخوف.

بينما جمل الحلم أطول قليلًا:

“وفي كل مرة، يرى نفسه يقترب من منزل يحترق…”

هذا يعطي الحلم زمنًا مطّاطًا، يوحي بأن الزمن في اللاوعي أبطأ، مقابل التسارع في الواقع.

4. الحقل الدلالي (الحقول النفسية والجسدية والنارية)

القصة تحشد كلماتها في ثلاثة حقول:

الجسد: (ينهض، عرق، قلب يخفق، جسده يتصبب)

النار: (ألسنة، اللهب، يحترق، تتصاعد، تلتهم)

النفس: (مذعورًا، يبكي بحرقة، الذنب، يطارد، الصراخ)

هذا الانتقال بين الحقول يعكس الصراع الداخلي بين الجسد المحسوس، والنفس المعذبة، والخطر الخارجي (النار).

إذًا، اللغة في القصة مباشرة بظاهرها لكنها منزاحة بباطنها، حيث ترشد القارئ إلى الرموز (النار، العيون، الحلم).

الإيقاع يتبدل بذكاء بين السريع القلق (في الصحوة) والبطيء الكابوسي (في الحلم).

الألفاظ محكومة بحقول دلالية تشد بعضها البعض، مما يخلق توازنًا ديناميكيًا بين الواقع والحلم.

 التجربة الإبداعية للكاتب:

وهو المستوى الذي تحتفي به الذرائعية بشكل خاص، لأنه يُظهر بصمة الكاتب النفسية والاجتماعية، وكيف تنعكس في العمل الأدبي.

وسنحلله كالتالي:

1. المنشأ النفسي للتجربة

واضح أن الكاتبة تنطلق من وعي عميق بالشعور بالذنب، باعتباره محركًا داخليًا للبطل (رامي) ومرآة لحالات شائعة في مجتمعاتنا:

فالشعور بالذنب هنا لا يقتصر على خطأ شخصي بل يتضخم ليصير كابوسًا جمعيًا.

اختيار الكوابيس المتكررة كوسيلة سردية يكشف عن إلمام الكاتبة بعالم النفس التحليلي، وتحديدًا بنظريات فرويد حول اللاوعي وتكرار الصدمة.

2. المنشأ الاجتماعي للتجربة

القصة تعكس ثقافة مجتمع عربي حيث الشعور بالذنب تجاه الأسرة (الزوجة، الأبناء) يأخذ بعدًا مقدسًا.

مثلاً: الزوجة التي تظهر في الحلم كصوت باكٍ ومعاتب تمثل صورة الأم/الزوجة النموذجية في الثقافة العربية.

حتى الحريق الذي يندلع في المنزل يرمز إلى الدمار الداخلي للعائلة، في مجتمع يعتبر العائلة هي الركيزة الأساسية للهوية.

3. بصمة الكاتب الأسلوبية

الكاتبة توظف ثنائية الواقع/الحلم بمهارة، مما يعكس تجربة كتابية تتجه نحو السرد النفسي التجريبي، وهو توجه حديث في القصة العربية.

اعتمادها على الإيقاع النفسي المتوتر، والجمل القصيرة، يُظهر أن لديها وعيًا بالأسلوب كأداة نفسية وليس مجرد وسيلة سردية.

4. رؤية الكاتب للعالم

من خلال القصة، يبدو أن الكاتبة تؤمن بأن الإنسان لا يستطيع الهروب من ذنوبه، بل إنها تطارده حتى في نومه.

كما توحي القصة بأن الاعتراف والندم هما الطريق للخلاص، وهو توجه أخلاقي يظهر في أغلب الأعمال الأدبية ذات الطابع النفسي.

5. خصوصية التجربة الإبداعية في هذه القصة

القصة رغم بساطتها الظاهرة، تُظهر وعيًا مزدوجًا:

وعي ثقافي اجتماعي (العائلة، الذنب، النار كرمز).

وعي نفسي عميق (الحلم، الكابوس، الصراع الداخلي).

وهذا المزج هو ما يُميز القاصة هنا، ويمنح العمل قيمة ذرائعية عالية، لأنه يجمع بين المضمون النفسي والشكل الفني.

بالنهاية:

الكاتبة تُظهر في هذه القصة تجربة إبداعية تقوم على التقاط الذنب الفردي وإظهاره كصراع نفسي اجتماعي، وتستعمل أدوات سردية (الحلم، النار، الزوجة الباكية) بلغة انزياحية وإيقاع متوتر، مما يجعل القصة مثالًا على السرد النفسي المُحمَّل بالرموز الثقافية.


مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *