رسالة إلى لورانس : أزقة سواكن حكايات تتنفس الحياة
بقلم الدكتورة/ بلسم عبد الحميد احمد القارح
مدير مكتب الأثارالاقليمي -البحر الأحمر
مدير متحف البحر الأحمر للآثار والتراث- السودان
مدخل
اسمحوا لي أن أرسل عبركم هذا الخطاب الرمزي إلى لورنس أحد أفراد الفريق الذين عملوا معي في مشروع البحث والتنقيب في سواكن لعد أعوام
المرسل إليه: لورانس سميث
الراسل : بلسم القارح العنوان:القاهرة-مصر
صديقي الغالي لورنس سميث
بعد التحية،
أكتب إليك اليوم وأنا غارقة في ذكريات سواكن، المدينة التي جمعنا فيها العمل، والتي كانت دائمًا أكثر من مجرد مكان بالنسبة لنا وأستحضر من ذاكراتي خضم من الأساطير والقصص التي تتشابك مع كل حجر وكل زاوية في شوارعها وأزقتها، لقد كنت شاهدًا على بعض من تلك اللحظات التي لا تُنسى، وعلى الرغم من مرور الزمن إلا أن رائحة البحر وأصوات الحكايات ما زالت تتردد في قلبي كما لو أنني أعيشها اليوم.
أتذكر حين زرتني في الخرطوم قبل عامين، وأنت تتحدث بحزن عن مرضك الذي حال بينك وبين ذلك المكان الذي تركت فيه قلبك. لا يسعني إلا أن أستشعر معك هذا الأسى من خلال كلماتك وحزنك وفقدك لجزء من روحك فيها فقد كنت دائمًا الداعم والمحب لها بكل ما فيها، وكان قلبك معلقًا بأزقتها، كما هو حال قلبي وكانت بالنسبة لك منزلاً وحكاية، كانت حقا مرآة لروحك.
يطيب لي أن أتخيلك وأنت تجول في أزقتها الضيقة، تستمتع برائحة البحر التي تمتزج بروائح الحكايات القديمة. هي سجّل حي من الزمن وبؤرة من القصص تشبكت مع تاريخها وبين شوارعها تتناقلها الأجيال وتحمل بين جنباتها خيوطًا من الإيمان والأساطير التي يتنفسها أهلها في حياتهم اليومية تلك القصص التي كانت تثير فضولنا معًا حين كنا نتجول بين أزقتها الضيقة تلك المدينة التي كانت في يوم من الأيام مركزًا تجاريًا مزدهرًا والآن تحتفظ بذاكرة حية تحفظها الجدران القديمة والأصوات الصادقة.
ولكن هل تعلم أن أكثر القصص التي جعلتني أتأمل وأتوقف هي تلك المتعلقة بالجن الذين يقال إنهم سكنوا سواكن؟ أما كلمة “سواكن” نفسها فقد كانت محاطة بالعديد من الروايات التي تضيف طابعًا غامضًا للمدينة يُقال إن أصل اسم “سواكن” يعود إلى الكلمة المحلية “أوسوك”، التي تعني “سوق”، ارتباطًا بتاريخها كميناء تجاري. لكن هناك رواية أكثر غرابة هي أن الاسم مشتق من “سواجن”، جمع “سجن”، الذي خصص للنساء من الجن اللائي تم حبسهن بعد أن لم ينفذن أوامر سيدنا سليمان. أو أن الاسم تحور من “سواها الجن” أي أن الجن هم من بنوها في لحظة سحرية ، وكأنهم قد تطوقوا المكان وأعطوه روحًا غير مرئية،. والبعض يعتقد أنها كانت في السابق “مسكونًة بالجن، وهو ما جعل المدينة مليئة بالقصص التي يرويها الجميع عن لقاءاتهم المريبة مع تلك الكائنات غير المرئية.
هل تذكر عندما كنا نمشي في الشوارع الضيقة، وكان أحدهم يروي لنا عن الحمام الذي يتخذ شكل الغراب لبعض الأشخاص. وعن ثعبان الكوبرا الذي يظهر لمن يسيء لحرمة المكان. والقطط التي تسير في سواكن كأنها جزء من عالم آخر تمتلك أسرارًا لا يفهمها أحد ، تتمتع بنظرات ساحرة تشعرك بأنها تسبر غورك إذا ما نظرت في عينيها تطلب الطعام من الناس و تحدثهم بمغبة ما سيلاقونه إذا هم اضروا بالمكان وكأن السماء تنزل بأسرار لا يفهمها سوى من يؤمن بهذه الحكايات .
ومن أروع القصص تلك التي تتعلق بالقيامة التي يُقال إنها ستحدث يوم الجمعة قبل صلاة المغرب. في هذا اليوم المفصلي، يجتمع الجن في المدينة، حيث يعتقد أن رئيسهم وقاضيهم يقيم فيها يتجمع الجن من جميع أنحاء السودان، ليحضروا محاكمة غريبة في هيئة قطط القاضي يعلن محاكمة جماعية حيث تُعرض الأعمال ليعرف الجميع جزاءهم وبعد أن يتم عرض الأعمال. فإذا عدى الميقات ولم تقم القيامة يطلب القاضي منهم أن يحسنوا سلوكهم ويراعوا الله في كل شيء، ثم يختتم الاجتماع في انتظار الأسبوع المقبل ومحاكمة أخرى للارتحال من هنالك إلى ارض الميعاد في بيت المقدس عبر البحر.
لكن يا رفيقي تبقى قصة واحدة روحانية تثير دهشتي وأخذت قلبي بالكامل إنها قصة الشيخ فرج الله ذلك الرجل الطاهر الذي كان يعرفه أهل سواكن جيدًا يقولون إنه كان أميًا لا يعرف قراءة ولا كتابة، لكنه كان يحمل في قلبه إيمانًا عميقًا بالله. كانت حياته تتمحور حول فريضتي الحج والعمرة، وكانت صلاته بسيطة للغاية، لكن إيمانه كان عميقًا كان يصلي بطريقة خاصة به وعندما رآه أحد الحجيج يصلي على غير الوجه الصحيح، انتقده قائلاً: “كيف لك أن ترجو الذهاب للحج وأنت تصلي بهذه الطريقة؟”. و لم يبادر حتى بعد كلماته القاسية بتعليمه وتلقينه الصلاة الصحيحة.وذهب مستهترا تاركا الشيخ في حيرة من أمره، لكن الشيخ بدلاً من أن يأسف أو يغضب قرر أن يردد في كل ركعة جملة واحدة فقط: “الله يحب فرج الله، وفرج الله يحب الله”. وكانت تلك الجملة هي صلاته ،ثم جاء يوم السفر وكان الجميع على متن سفينة متجهة إلى جدة. وفي أثناء الرحلة رأى الركاب الشيخ يسبح في سجادته وكأن روحه تطير مع الريح، ليصَل إلى مكة المكرمة قبل الجميع. وعندما حاولت سفينتهم الوصول إلى الميناء في جدة، تم منعها من الدخول لأسباب غير معروفة، وكأن السماء قد تدخلت، لأن جميع من في السفينة كانوا قد شاركوا في السخرية من الشيخ. هذه الحكاية تحكي عن تدخل القدر ليقدم درس للجميع حول قوة الإيمان، وأن الله لا يحتاج إلى طقوس معقدة، بل يحتاج إلى صدق القلب.
وفي سواكن، لا تقتصر الحكايات على الجن والروحانيات فقط، بل يمتزج التاريخ مع الأسطورة في كل زاوية. سواكن كانت قديمًا “جنة” مليئة بالحدائق الزاهية والمباني الشامخة، كما يصفها شعراؤها. بل كان يقال عن سواكن إنها “مليئة بالحور” وأنها كانت في أوج ازدهارها جنة من جنان الأرض. في قصيدة شهيرة، يتم التذكير بمجد سواكن، وتُحكى عن الغربة التي أصابت أهلها بعدما طال الزمن وهجروا العيش فيها. القصيدة تتحدث عن المدينة التي كانت يومًا ما عامرة، وقد كتب فيها شاعرٌ فيقول:صب دمعي وأنا قلبي ساكن حار فراقك نار يا سواكن السكونك وسط البحور كنت جنة ومليانة حور ، ليك ماضي مدى الدهور بيه شعبك دايمًا فخور ، لما صابك جور السنين وهجرنا العش الأمين وريث ديارك أصبح حزين يبكي بالدمع السخين ،آثارك في كل حين ذكرى دايمًا للخالدين. يا رفيقي لقصص التي نحكيها تظل في القلب على مر الأزمان، وتدفعنا دومًا للعودة أنتظر اللحظة التي نعود فيها معًا، لنسير مجددًا بين الأزقة ونعيد اكتشاف كل ما فيها من أسرار، ولنجعل كل لحظة هناك ذكرى خالدة في روزنامة الزمن. أيا مرافقي فيها زمنا سأظل أحكي لك عنها بكل تفاصيلها ،زخمها الروحي ،تاريخها الملئ بالأسرار وشواطئها المفعمة بالسلام والجمال. لك مني كل التحية يا صديقي وأتمنى أن تجد في كلمات هذه الرسالة ما يعيد إليك بعضًا من السحر والحنين الذي لن يبارح ذاكرتنا وحنايانا.
دمت بخير وسلام.
صديقتك المخلصة بلسم القارح
الخميس 25/02/2025م
القاهرة
Facebook
X-twitter
Youtube
Whatsapp