
على مقصلة العبث: قراءة ذرائعية في قصيدة /عذرًا منك/ للشاعرة اللبنانية زينب الحسيني
بقلم الناقدة السورية دكتورة/ عبير خالد يحيي

تنتمي هذه القصيدة بوضوح إلى الشعر الرمزي الحديث ذي البعد الإيحائي المكثف، وهي قصيدة تتسم بمستوى عالٍ من التوتر العاطفي والصور الدرامية، ما يجعلها مناسبة جدًا للتحليل الذرائعي، سيما من جهة المستوى التداولي الإيحائي العميق، والذي يُعنى بما تبثه اللغة من دلالات تتجاوز ظاهر المعنى، وتستقر في البُنى النفسية والثقافية والسياقية.
1- البؤرة والخلفية الأخلاقية:
البؤرة تتمركز حول صرخة وجودية وأخلاقية ضد واقعٍ عبثي، اختلط فيه المقدس بالمدنس، والرحمة بالوحشية. الخلفية الأخلاقية تقوم على الاستنكار الإنساني العميق للمذابح والدمار، كما تظهر في قولها:
“يتجشَّأون حقدهم من شرهٍ
للمذابح تترى…”
تسجل الشاعرة موقفًا أخلاقيًا حادًا من تزييف المظاهر الدينية واستغلالها لتبرير العنف.
2- المستوى التداولي الإيحائي العميق:
هذا المستوى يُظهر براعة الشاعرة في تحميل النص شحنات إيحائية مشحونة بالمفارقة والانكسار. نرصد فيه:
أ. إيحائية الصورة:
“تراب الأرض زوبعةٌ / غبارها يلثم السُّحُبا”
هنا نجد استحضارًا لصورة كونية تبدأ من الأرض وتصعد إلى السماء، لكنها ليست صعودًا طاهرًا بل محمّلًا بالغبار والفتنة، في إيحاء بانقلاب نظام الطبيعة والروح.
“شياطينٌ تتراقصُ / ترمي أقنعة / تستبدل أخرى”:
إيحاء مسرحي راسخ، يُشعر القارئ بأن الواقع كله مجرد عرض زائف، يتبدل فيه الخير والشر حسب المزاج والمصلحة. هذا يشير إلى انهيار المعايير الأخلاقية.
ب. الزمن المقلوب والمكان المشظّى:
“والساعة في عالمنا جثَّةٌ / علِّقت على مقصلة العبثِ..”
يُستخدم الزمن كرمز ميتافيزيقي. لم تعد الساعة تُقيس، بل تحوّلت إلى ضحية في عالم فقد معناه. إيحاء ثقيل بالجمود واللاجدوى.
ج. التمويه الإيحائي في الصراع الديني والسياسي:
“يستجيرون بالكنائسِ والمآذن / مساءً وفجرا”
يفتح النص هنا على صراع ديني ظاهر، لكنه موارب إيحائيًا، فالمآذن والكنائس ليست أماكن خلاص حقيقية، بل مسارح للتمويه والنجاة الفردية، في مقابل “يتجشأون حقدهم…” ما يدل على نفاق ديني فجّ.
د. الاغتراب والتشيؤ:
“يمرَُّ بها العابرون أشلاءً / لا شم لهم, لا سمعٌ ولا بصر…”
استعارة تجسّد الغربة الوجودية والانفصال عن الذات والعالم. الكائنات تتحرك دون حواس، أي دون وعي أو إنسانية.
هـ. الختام الاعتذاري ـ التراجيدي:
“لئن تجمَّدت أحرفي / أرجوك اعتذارا أيُّها القلمُ…”
نقطة تحول من التوصيف الغاضب للعالم إلى اعتراف الذات بعجز التعبير. إنها لحظة وعي مرير بالمحدودية، وكأن القلم عاجز عن الإحاطة بهذا الجحيم، وهذه من أقوى لحظات النص التداولية ـ إذ يرتفع الإحساس بـ”ثقل القول” وانعدام جدواه أمام الكارثة.
3- تقنيات شعرية داعمة للمستوى التداولي:
الرمزية المكثفة: السفينة، القمقم، الساعة، المقصلة، الأصنام، كلها رموز مغروسة في وعي ثقافي متشبع بالحكايات والأساطير والأديان، مما يعزز الإيحاءات اللاواعية.
الإيقاع الداخلي: لا تعتمد الشاعرة تفعيلة أو وزنًا تقليديًا، بل موسيقى داخلية ناتجة عن تكرار الحروف والنبرات المشحونة (القاف، الحاء، الراء…).
المفارقة المريرة: بين الجمال الخارجي (السحب، البسمات، العشاق) والواقع المأساوي (المذابح، السفن الغارقة، العبث، الجثث…).
المستوى البصري
تتميز القصيدة بصور كثيفة ومركّبة تعيد تشكيل العالم شعريًا من خلال استعارات مرئية تمزج بين المادي والميتافيزيقي:
“تراب الأرض زوبعةٌ / غبارها يلثم السحب”
صورة مشهدية تنقلنا من الأرض إلى السماء، لكن بصورة مقلوبة، غبار الأرض لا يثقل السحب فحسب، بل يخترق قداسة العلوّ ويشوّشه، بما يوحي بانقلاب شامل في النظام الكوني.
“شياطين تتراقص / ترمي أقنعة / تستبدل أخرى…”
عرض بصري رمزي يُشبه مسرحًا عبثيًا، تتقاطع فيه الحركات والوجوه المزيفة. الإيحاء هنا يتشكل بصريًا من حركة ومسرحة وتشظٍّ.
“الساعة… جثة / على مقصلة العبث”
صورة بانورامية لاغتيال الزمن. تجسيد بصري لمفهوم مجرد، في تأكيد على العبث والفوضى.
“يمر بها العابرون أشلاءً…”
المشهد يزدحم بصريًا: جثث، أشلاء، عيون مطفأة، عالم ما بعد الموت أو ما بعد الإدراك.
المستوى اللغوي (Linguistic Level):
لغة القصيدة ذات طابع رمزي/تفجيري، تنتمي إلى الخطاب الشعري المقاوم للغة النمطية:
المفردات: زوبعة، شياطين، أقنعة، مذابح، مقصلة، جثة، قمقم، صنم… مفردات قوية وموحية، تميل إلى التهويل الدلالي لخلق صدمة شعورية عند المتلقي.
التكرار الصوتي: هناك تكرار لحروف الحاء والراء والسين، مما يضفي جرسًا حزينًا ومرتجًّا.
الأسلوب التوليفي: الجمل تتراكم دلاليًا لا نحويًا. البنية مكوّنة من صور واستعارات، وليست من سرد منطقي. هذا يجعل اللغة محمّلة بتعدّد الأصوات والطبقات.
اللغة الدرامية: تتحول اللغة من خطاب خارجي إلى اعتراف داخلي، كما في الختام:
“أرجوك اعتذارا أيها القلم…”
خطاب موجّه لكائن رمزي يعكس قلق الذات من العجز عن التعبير، مما يرفع درجة البوح.
المستوى الديناميكي (Dynamic Level):
يعني هذا المستوى حركة النص داخليًا وخارجيًا، أي كيف تنمو الصور والأفكار وتتوالد، وأيضًا كيف يتفاعل القارئ معها.
ديناميكية الصور: كل صورة تقود إلى أخرى، كما لو أن النص عبارة عن موجة مستمرة من التحول.
مثال: التراب → الزوبعة → الغبار → السحب → الشياطين → الأقنعة → المذابح…
هذا يخلق تسارعًا سرديًا داخليًا رغم غياب السرد التقليدي.
التحول من العام إلى الخاص: القصيدة تبدأ من وصف واقع خارجي ثم تتقوقع تدريجيًا نحو الذات الشاعرة، كما في:
“لئن تجمدت أحرفي…”
هذا التحول يُعطي القصيدة طاقة داخلية وتوترًا متصاعدًا.
حركة القارئ: النص يجبر القارئ على الانخراط في كشف الرموز وفكّ التناصات الضمنية (الساعة، المقصلة، القمقم، السفينة، الصنم)، ما يخلق علاقة تفاعلية قوية مع النص.
المستوى النفسي (Psychological Level):
يظهر في هذا النص قلق وجودي مركب، وتوتر داخلي عميق، ناتج عن الانفصام بين الذات والعالم:
اضطراب إدراكي: العالم لا يُفهم ولا يُطاق، فكل شيء فيه مقلوب، مظلم، متحوّل. وهذا يولّد حالة اغتراب نفسي داخلي.
الذات القَلِقة: الشاعرة تعلن عجزها في ختام النص، ما يشير إلى صراع داخلي بين الرغبة في التعبير والشعور بعبثية هذا التعبير.
الإسقاط: حين تقول: “أشياء تشجني / تحيلني نايًا جريحًا”, نلمس حضور الأنا المجروحة، التي تسقط قلقها على المحيط، ثم تعود إلى جلد ذاتها.
آليات الدفاع النفسي: من أبرزها الإنكار، التبرير، الإسقاط، والاعتذار. كلها تعمل ضمن النص في تذبذب بين مقاومة الواقع والانهيار أمامه.
دراسة التجربة الإبداعية:
التجربة الإبداعية هي البوابة لفهم دوافع الشاعرة، والظروف النفسية والاجتماعية والثقافية التي دفعتها إلى إنتاج نصٍّ بهذا العمق الإيحائي والتوتر الدلالي. وتُدرس من خلال العناصر التالية:
1- السياق الزمني والاجتماعي:
القصيدة كُتبت في عام 2018، وهو زمن تكثفت فيه التحولات السياسية والإنسانية الكارثية في المنطقة العربية، خاصةً في سوريا والعراق واليمن وفلسطين. هذا السياق خلق بيئة مأزومة، حرّضت على الكتابة بوصفها فعل مقاومة ونجاة.
في هذا الإطار، تنبع التجربة الشعرية لدى زينب الحسيني من الجرح الجمعي، لكنها لا تصفه بشكل مباشر، بل تعبّر عنه برمزيات كونية ودينية ووجودية، ما يدل على وعي شعري ناضج يتجاوز اللحظة الآنية إلى الأسئلة الكبرى.
2- الموقف الوجودي للشاعرة:
يبدو أن زينب الحسيني تحمل في قصيدتها رؤية سوداوية عبثية للعالم، لكنها ليست استسلامية، بل ناقدة وساخطة وغاضبة. النص كله مشحون بالرفض والدهشة المريرة:
“والساعة في عالمنا جثةٌ / علقت على مقصلة العبث…”
هذا الموقف يدل على تجربة داخلية ذات طابع تأملي – احتجاجي – وجداني، حيث تصطدم الشاعرة بزيف الواقع وتفاهة الإنسان حين ينزلق إلى وحشيته.
3- التمرّد على النسق التقليدي:
الشاعرة تتعامل مع اللغة والتقنيات الشعرية كمادة حية قابلة للتشكيل والانتهاك. تخرج عن البناء العمودي أو التفعيلي، وتذهب إلى قصيدة النثر الرمزية المشحونة بالألم والاحتراق الداخلي.
هذا يكشف عن تجربة متمرّدة، ترفض الخضوع للأنماط، وتُنتج شعرًا صادمًا في صورته وفي نبرته وفي نوعية مفرداته.
4- علاقة الشاعرة بالقلم واللغة:
في نهاية القصيدة، نقرأ:
“لئن تجمَّدت أحرفي / أرجوك اعتذارا أيها القلم…”
هنا نصل إلى قلب التجربة الإبداعية: علاقة الذات الكاتبة بالأداة التعبيرية. وكأن الشاعرة تقول: أنا عاجزة عن مواكبة هذا الخراب، عن التعبير عنه بصدق يوازي فداحته، لذا أعتذر من لغتي.
إنه وعي إبداعي حاد بمحدودية التعبير الشعري أمام الواقع الفاجع، ما يعكس نضجًا وجدانيًا وفكريًا كبيرًا.
5- بُعد الذاكرة الثقافية والرمزية:
زينب الحسيني تستدعي في النص عناصر من:
الموروث الديني (الكنائس، المآذن، السفن، الأصنام، الشياطين)،
التراث الشعبي (القمقم، ربان السفينة)،
الميتافيزيقا (الزمن، المقصلة، الأشباح، الجثث)…
وكلها توظَّف كخلفية رمزية تستند إليها التجربة الذاتية، ما يدل على غنى الثقافة المرجعية لدى الشاعرة، وقدرتها على إعادة تفعيلها في نصّها الشعري الخاص.
زينب الحسيني في هذه القصيدة تكتب من جرحٍ مشترك، ولكن بلغة شخصية جدًا، مشحونة بالرؤية والتمرد والتكثيف الرمزي. لا تبحث عن بوح أنثوي عاطفي، بل تقدم خطابًا شعريًا متوترًا، حادًّا، يقف على تخوم الصرخة والاحتراق الذاتي.
القصيدة هي صوت روحٍ رافضة، ذاهلة، تحاول لملمة الحطام بلغة لا تطلب الشفقة، بل تكشف العجز النبيل عن الصمت.
الملاحظات الختامية (التقويم الذرائعي):
في هذه المرحلة، نسلط الضوء على القيمة الأدبية الكلية للنص، نقاط القوة، وجوانب يمكن تعميقها أو تطويرها، وذلك من زاوية الذرائعية التي تركز على الوظيفة والفاعلية والاستجابة التأويلية للنص.
1- نقاط القوة:
التكثيف الرمزي والتداولي العالي:
استطاعت الشاعرة تحويل القصيدة إلى حقل تأويلي مفتوح، من خلال الصور الرمزية متعددة الأبعاد، ما يجعل القارئ يشارك في إنتاج المعنى.
الموقف الوجودي الحاد:
القصيدة لا تحكي، بل تدفع القارئ إلى مواجهة أسئلة محورية حول الزيف، والزمن، والموت، والانهيار الأخلاقي. هذه قيمة فلسفية عميقة تنبع من قدرة الشاعرة على اختزال الواقع في مفارقة مفجعة.
بنية شعرية مرنة، غير خاضعة للتقليد:
الشاعرة كتبت قصيدة حرة، ذات بنية منفتحة، لكنها في الوقت ذاته متماسكة دلاليًا ونفسيًا. هذا التوازن يدل على وعي إبداعي راسخ.
الختام الناقد للغة:
المقطع الأخير، حيث تعتذر الشاعرة للقلم، يُعدّ ذروة التوتر الجمالي والوجودي في النص، وهو ما يُضيف بعدًا ميتاشعريًا يعيد مساءلة جدوى الشعر ذاته.
2- ملاحظات تطويرية محتملة:
الإغراق في التراكم الرمزي دون فواصل تنفسية:
القصيدة مشحونة للغاية، وربما تفيد بعض المساحات الفارغة أو التمهيدية حتى يمنح القارئ لحظة استقبال قبل الصدمة التالية.
إدخال إشارات صوتية أو حسية إضافية:
رغم القوة البصرية في القصيدة، إلا أن الاشتغال على الأصوات أو الروائح أو اللمس قد يُضيف مستويات حسية جديدة تعمّق تجربة التلقي.
إتاحة لحظة نور أو أمل، حتى وإن كانت رمزية:
القصيدة قاتمة كليًا. إدخال ومضة ضوء (ولو مخادعة أو مستحيلة) قد يخلق توازنًا إبداعيًا بين الظلمة والإدراك.
القصيدة تُجسّد تجربة شعورية عميقة مليئة بالرمز والتأمل والصرخة المحتجّة، وتكشف عبر مستواها التداولي والإيحائي، ومعه باقي المستويات، عن نص شعري شديد الكثافة والانفعال الذهني والعاطفي. هي ليست قصيدة توصيف، بل قصيدة وجودية تُفكّك العالم وتدين قبحه وانهياره الرمزي والمعنوي.
عذرًا منكْ…
تراب الأرض زوبعةٌ
غبارها يلثم السُّحُبا..
شياطينٌ تتراقصُ
ترمي أقنعة
تستبدل أخرى ..
ترتدي بسماتٍ وآهاتٍ
تذرف الدموع حَرَّى …
يستجيرون بالكنائسِ والمآذن
مساءً وفجرا
يتجشَّأون حقدهم من شرهٍ
للمذابح تترى…
يذبل القمر لحظة
يطوي ظلال عشاقٍ
أغرقتهمُ سفنُ ..
والسَّاعة في عالمنا جثَّةٌ
علِّقت على مقصلة العبثِ..
يمرَُّ بها العابرون أشلاءً
لا شم لهم،لا سمعٌ ولا بصر ..
البعض محتّبَسٌ في قمقم
بسفينةٍ ربانها صنمٌٌ
ترسو ببحرٍ مدُّه جزرُ…
أشياءُ تشجُّني .
تحيلني نايًا جريحًا يئنُّ …
لئن تجمَّدت اعتذارًا أيُّها القلمُ…
من ديوان”رؤى وأحلام” عام ٢٠١٨.
زينب الحسيني