
قراءة في رواية ( في بيت المُسنَّات الصَّغيرات) للأديبة نهى عاصم
بقلم الأديبة الدكتورة/ علياء إبراهيم

هل أنا من اخترتُ هذه الرواية، أم هي التي وجدتني؟
سؤال تسلل إلى ذهني وأنا أقلّب صفحاتها، كأنها تفتح لي باباً أعرفه جيداً، يقودني إلى مدينتي التي لم تفارقني يوماً، حتى حين ابتعدتُ عنها. لم يكن الأمر مجرد مصادفة، بل خيط خفي يشدّني إلى الإسكندرية مرة أخرى؛ إلى بحرها الذي يهمس لي كما كنتُ أهمس له، إلى شوارعها التي عبرتها مرات ومرات.
كيف لا أشعر بذلك القرب، وكاتبة الرواية (نهى عاصم) وأنا ننتمي إلى المدينة نفسها.. درسنا في الجامعة ذاتها، حملتنا الشوارع نفسها، وترك حي (كوم الدكة)، الذي تدور فيه أحداث الرواية، أثراً لا يمحى فينا. هناك، بين أنقاضه، كنتُ يوماً طالبةً أستمع إلى أساتذتي وهم يروون تاريخاً لم أكن أعلم أنه سيتحول إلى جزء مني. ثم عدتُ بعد سنوات كأستاذة جامعية أشرح لطلابي ما كنتُ أسمعه يوماً، وأدركتُ أنني لم أغادر المكان أبداً، بل كنتُ أحمله داخلي طوال الوقت.
الإسكندرية ليست مجرد مدينة، بل حالة من الحنين الدائم. مهما ابتعدنا، يظل نسيمها يسكن أنفاسنا، وصوت موجها يوقظ ذكريات طفولتنا وصبانا وشبابنا. في أيام الشتاء، حين يعصف الهواء برائحة البحر، ونسير تحت المطر، نشعر بأن هذه الرائحة كالعطر المعتق، ستظل ممسكة بنا لا تفارقنا.
(في بيت المسنات الصغيرات)، ليس مجرد نص أدبي، بل مرآة تعكس علاقتي بهذه المدينة التي لم تغادرني أبداً، حيث يأتي العنوان كمفارقة لغوية تثير التساؤل والفضول؛ فـ”المسنات” تستدعي صورة الشيخوخة، بينما تضفي “الصغيرات” نكهة من الشباب والحيوية. لكن سرعان ما يدرك القارئ أن هذا البيت ليس مأوى للعجائز، بل ملاذٌ لنساء أثقلت الحياة أرواحهن قبل أن تهرم أجسادهن. لكل واحدة منهن قصة؛ وطن تركته وراءها، وأحلام تلاشت بين الواقع والانتظار، وصدمات طفولة تركت جروحاً في النفس غائرة. بعضهن جئن من بلاد بعيدة، وأخريات لم يبتعدن كثيراً عن جذورهن، لكنهن جميعاً يشتركن في شعورٍ بالغربة ليس عن المكان، بل عن حياةٍ كنّ يعتقدن بأنها ستكون مختلفة.
هذا الشعور بالزمن المتداخل لا يتجلى فقط في حياة البطلات، بل يمتد ليصبح حواراً بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والتاريخ، مجسداً في تمثال أبي الهول الذي تمتلكه بطلة الرواية، حياة؛ الأستاذة الجامعية التي تدرّس التاريخ. ابنة الأب النوبي والأم (الإسكندرانية) تقف عند نقطة تلاقٍ بين ثقافتين، كما تقف أمام تمثالها الصامت، تحاوره كأنه يحمل ذاكرة أقدم حضارة عرفها التاريخ، بينما تواجهه بوعي حديث. كأن الكاتبة ترى الزمن بوصفه نسيجاً متداخلاً، تتشابك فيه الحكايات والأماكن، فلا يكون الحاضر إلا صدى بعيداً لما مضى، ولا يكون الماضي إلا ظلاً ممتداً لما هو آتٍ..
الرواية لا تكتفي بتقديم شخصيات نسائية تحمل أعباء الزمن، بل تمتد لتناقش الهويات المتداخلة. تدور الأحداث بين الإسكندرية، المدينة المنفتحة على البحر، التي تحمل وجوهاً متعددة، والنوبة، التي تمثل عالماً أكثر انعزالًا، حيث الجذور متشابكة في الأرض بعمق، والهوية متماسكة لا تعرف التبدد. البطلة، التي تنتمي إلى الإسكندرية بحكم ميلادها هناك، تجد نفسها في مواجهة مع النوبة بحكم الأصول والجذور، كأنها تسير على جسر بين عالمين، لا ينفي أحدهما الآخر، بل يثريه ويمنحه بُعداً أكثر تعقيداً. وكأن الرواية تهمس لنا: الهويات ليست جدراناً صلبة، بل طبقات متداخلة تتفاعل مع الزمن والمكان، لا تنتهي عند حدود المدن، بل تتغلغل في روح الإنسان ذاته.
داخل البيت القابع في (كوم الدكة)، تتكرر المفارقة ذاتها. الوحدة التي قادتهن إلى هنا، تتحول ببطء إلى نوع من الألفة، إلى روابط غير متوقعة، تجعل من هذا المكان، الذي يُفترض أن يكون محطة أخيرة، فرصة جديدة لبداية أخرى.
تتميز الرواية بقدرتها على رسم الأماكن بواقعية بصرية حية. يظهر حي (كوم الدكة) بكل تفاصيله الأصيلة، وكأنه إحدى شخصيات العمل، حيث تعكس أزقته وتاريخه حياة سكانه. وبالمثل، تتناول الرواية النوبة، ليس فقط بوصف معالمها وآثارها، بل بلغتها وتقاليدها، ما يعكس ثراء التنوع الثقافي في مصر.
أحد أبرز عناصر القوة في الرواية هو أسلوبها السلس والبسيط، دون أن يكون سطحياً. تستخدم نهى عاصم لغة قريبة من القارئ، مع إدخال بعض العبارات العامية والكلمات الأجنبية والنوبية في الحوارات، ما يضفي طابعاً من الواقعية على الشخصيات. كما أن الإشارات إلى أغانٍ معاصرة وشخصيات أدبية حديثة، يعكس التداخل بين الحداثة والموروث الشعبي، ما يعزز الإحساس بزمن الرواية ويجعلها قريبة من جيل الشباب.
تنتهي الرواية عند لحظة زمنية فارقة، حيث يختتم السرد بمشاهدة (المسنات الصغيرات) لبرنامج تلفزيوني في بث مباشر، يعلن عن عملية طوفان الأقصى في اليوم السابع من أكتوبر 2023. هذا التوقيت يمنح القصة بُعداً راهناً، ويدفع القارئ إلى إعادة النظر في الأحداث بعيون جديدة. هنا، يلتقي الخيال الأدبي بالواقع، في لحظة تعكس معاناة إنسانية حقيقية يعيشها عالمنا العربي في ظل أزمة غزة المستمرة.
“في بيت المسنات الصغيرات” ليست مجرد رواية عن نساء يجمعهن سقف واحد، بل هي رحلة في عمق النفس البشرية، رحلة في مصر التاريخ والحضارة؛ مصر الحاضر والمستقبل، مصر من شمالها إلى جنوبها، وبحبكة تجمع بين الدراما والواقعية، تقدم نهى عاصم عملًا يستحق القراءة والتأمل، لأنه يعكس وجوهاً متعددة للحياة، بأحزانها وأحلامها الصغيرة والكبيرة.