
قطة مغمضة
بقلم الكاتبة / يسرا النوبي

كم كان يراوده ذلك الحلم لأعوام كثيرة وهو يلتهم أفكاره يوميًّا ويزاحمه في كل لحظاته، إلا أن والده وقف حائلًا بينه وبين تنفيذه.
حين ذهب إليه وائل وأخبره برغبته في اقتناء قطة في المنزل أجابه والده بأنه لا يمكن أن يحقق له هذه الرغبة فهو بشكل مختصر ” لن يستطع تحمل نفقة روح أخرى”
ولكن يمكن أن يحققه بعد أن ينهي دراسته الجامعية ويحصل على حياة تخصه من وظيفة ومنزل.
وها هو وائل يسير نحو حلمه بخطًى واثقة.
اليوم أمسك بيده أول راتب له من وظيفته صيدليًّا في أول شهر له في العمل وعاد إلى منزله وهو في غاية السعادة. وكعادته استوقفه محل الحيوانات الأليفة الموجود أسفل بنايته التي يقطن بها… كانت رغبته تستعر في كل لحظة يمر بها أمام هذا المحل وصوتها المُلِّح المزعج يدوي بأذنه.
اختلس نظرة إلى الأقفاص الموضوع بها القطط فلاحظ أن هناك وجوهًا جديدة لم يرها من قبل، فيبدو أن الأخريات وجدن بيوتا دافئة تحتويهن.
تسلل نحو أحد الأقفاص وهو يراقب قطة صغيرة شيرازية بشعر كثيف مبهر فشعر البائع باهتمامة بالقطط فهم إليه يعرض عليه المساعدة، فسأله وائل عن سعرها فأجابه البائع بسعرها الثمين.
تذكر قيمة راتبه الصغير ليعلم بأنه ما زال أمامه الكثير من الوقت في العمل ليس أقل من بضعة أشهر ليكمل ثمنها.
خرج من المحل ببعض الإحباط وغادر لشقته الجديدة التي يستأجرها.
مرت شهور أخرى ووائل يسير نحو حلمه باستماتة، ويوفر كل ماله ليقتني قطته وهو يراقب المحل باستمرار ويسأل من حين لآخر على الثمن لعله يجد الأرخص.
وأخيرًا جمع وائل ثمن القطة ولكن في تلك المرة استوقفه صديقه وأخبره بأن ذلك المحل وبالرغم من جمال قططه إلا إنه باهظ الثمن كثيرًا، ونصحه بمحل آخر يديره رجل طيب السمعه لديه من القطط الكثير والأسعار ليست باهظة وسيكرمك إذا اشتريت منه فهو يبحث فقط عن شخص أهل ثقة يعطيه من قططه المغمضة ليربيها جيدًا على يده وينتفع بثوابها. ستأكل مما تأكل ولن تكلفك الكثير مثل قطط هذا المحل التي اعتادت على الدلع والرفاهية وأكلات بعينها لا سواها.
فوافق وائل دون تردد على نصيحة صديقه على الفور وكان في غاية سعادته بعد شراء قطته الصغيرة مغمضة العينين من ذلك الرجل ليصحبها معه في منزله ويكون بذلك أخيرًا قد حقق حلمه.
كانت قطة رمادية اللون هادئة ومطيعة لا تعرف المشاكسة، حتى صوتها كان نادرًا ما يخرج، أغرم وائل بها وبكل طباعها الحسنة حتى إنه أخبر كل من يعرفه عن حسنها وحبها له ووفائها على عكس الكثير من القطط الغادرة، حدثهم عن هدوئها وأدبها وأنها ليست كباقي القطط الشقية التي يسمع عنها من حين لآخر.
كان يراها الحلم الذي طالما راوده وصبر كثيرًا ليحققه وها هو يتمثل أمامه في أجمل صورة ومجهوده لم يضع هباءً.
مرت الأيام على وائل وهي تحمل له الكثير من الخير في عمله ليمتلك بدلًا من الصيدلية الواحدة عدة أفرع وتنفتح أمامه أبواب الخير على مصراعيها، ويمتلك البناية التي كان يستأجر بها شقة ليصبح من أصحاب الأملاك والأموال، وأصبحت الأيام أعوامًا وكبر وائل ومعه قطته.
ولكن الأعوام لم تكن تحمل لها ما تحمله له… فمع مرور الأعوام ساءت علاقة وائل بقطته، وكأن كل يوم يمر يقطف من زهرة اهتمامه ورقة حتى ذبلت حديقته.
في تلك الأثناء وعلاقته مع قطته تمر بمنحنى منحدر سيئ ممتلئ بالأحجار والنقر ؛ لمح قطة صغيرة في المحل الذي أصبح أسفل بنايته الآن لونها أبيض وعيناها زرقاوان خطفت أنظاره وهي تتمختر بدلال في قفصها فسمع صوته الداخلي يأمره باقتنائها لكنه تجاهله وغادر.
ولكن منذ ذلك الموقف وقد تغير كل شيء…. أصبحت مشاعر الغضب والكره والضيق تراوده كلما رأى قطته بجواره، سئم هدوءها الذي كان محمودًا منذ أعوام لتتحول كل مميزاتها التي كان يقصها على من حوله إلى عيوب يمقتها.
ترى هل كان يحبها بالفعل أم كانت رغبتة الملحة التي أراد تسكينها ببعض البروفين؟
أصبح لا يراها في حياته… كل شيء يفعله من أجلها تركه حتى باتت تبحث عن طعامها وشرابها كل يوم وتنتظر بقاياه لتأكلها، ما عاد يصغي لموائها بل كان يدفعها بعيدًا صارخًا كلما جلست بجواره.
كانت تجهل أسباب تغيُّره ولكنها لم تملك سوى الانصياع له، فلا ملجأ لها سواه بعد أن كبر سنها… فمن يرغب في اقتناء قطة مسنة الآن ليرعاها؟
أما وائل فلم تغب عن ذاكرته صورة القطة البيضاء الصغيرة، وتشتت تركيزه بها كلما رآها أمامه لتتولد بداخله الرغبة من جديد ويعلو صوته الداخلي مرة أخرى. كم هي جميلة وشقية وهي تسير بغنج يسرق الفؤاد ومواؤها يذيب القلب… فانصاع لرغبته دون مقاومة وتشجع وذهب ليسأل عن ثمنها، فأخبره الرجل بالثمن الذي أصابة بدهشة… بالطبع باهظة الثمن ولكن بشكل مبالغ فيه تلك المرة.
لم يدفع في قطته الأولى سدس ثمن هذه القطة ولكنه يراها تستحق… فقطة بهذا الجمال والدلال لا تقدر بثمن وبالتأكيد لن يبخل عليها بعد أن أصبح ثريًّا…. سيعطيها مهما كلفته من الأموال التي لم تعد تمثل له مشكلة الآن.
فيجب عليه أن يعوض أيام البؤس مع قطته الأولى، فدفع على الفور ثمنها وأخذها لتعوضه بجمالها عن كل ما حرمته منه الأيام.
كان الجذل يملؤ قلبه كأنه لم يسعد من قبل وهي تنظر له في دلال وتمنع وكأنها كثيرة عليه ويكفيه أنها قبلت بصحبته، ليلج بها من باب منزله وتتفاجأ قطته الأولى بوجودها فتصيبها الصدمة.
إلى تلك الدرجة أصبحت لا أعني لك شيئًا؟!
لتشتعل بعدها شرارة لا تنطفئ ويبدأ بينهما صراع على البقاء.
ولكن القديمة لم تستطع التغلب عليها فقد سلبتها الأيام قوتها فلم تقدر على مواجهة الصغيرة الشابة بطاقتها المتأججة.
فكيف تتأقلم معها والصغيرة ترفضها دومًا ولكن ما أصابها بالضربة القاضية هي عندما انقضت الصغيرة عليها وقامت بجرح وجهها ولم يبال وائل بها بل انحاز للصغرى. وبدلًا من اعتنائه بها وجدته يفتح لها الباب ويأمرها بالمغادرة فتخرج منكسة الرأس ذليله جرحها ينزف والأخرى تحتل فراشها بزهو بعد أن نالت انتصارها. ثم أغلق خلفها الباب لينعم بقطته الجديدة.