مسلسل «أدوليسانس» Adolescence : الأعمال الدرامية.. مرآةٌ للواقع أم نداء للتغيير؟

صورة واتساب بتاريخ 1446 10 26 في 15.32.46 f216a419 1

مسلسل «أدوليسانس» Adolescence : الأعمال الدرامية.. مرآةٌ للواقع أم نداء للتغيير؟

بقلم الأديبة الدكتورة/ علياء إبراهيم 

صورة واتساب بتاريخ 1446 10 26 في 15.32.56 19bbea12 1

ليست هذه هي المرة الأولى التي يتصدّر فيها عمل درامي عناوين الصحف والمواقع الاخبارية قبل الفنية، لكن نادراً ما يتجاوز مسلسلٌ حدودَ منصة مثل «نتفليكس»، ليصبح مادةً للنقاش في قلب مجلس الوزراء البريطاني، ويقرر تعميمه على المدارس بعد إشادة رئيس الوزراء به، وتصدر توجيهات بأن يتلقى المعلمون تدريبات لمناقشته مع الطلاب. إنه مسلسل«أدوليسانس» (Adolescence) -والتي تعني باللغة العربية المراهقة- والذي أثار جدلاً واسعاً، ونال شعبية كبيرة، وبات أحد أكثر مسلسلات “نتفليكس” مشاهدة منذ عرضه في 13 مارس 2025، حيث جسّد من خلال أحداثه قضايا حساسة تتعلق بالعالم المعاصر الذي يعيشه المراهقون اليوم. فهل يمكن أن يتقبّل البعض استخدام مسلسل درامي لتوعية الأسر والأطفال والمراهقين؟ وهل الأعمال الدرامية مرآةٌ للواقع بكل إيجابياته وسلبياته، أم نداءٌ ووسيلة للتغيير، تملك القدرة على اختراق جدران الصمت، لتُثير فينا تساؤلاتٍ، وتخترق قضايا مسكوت عنها؟

هذا المسلسل البريطاني «أدوليسانس» الذي أشاد النقاد بصدق نصه الذي شارك في كتابته الكاتبان( ستيفن جراهام وجاك ثورن)، وبرؤية واعية لمخرجه ( فيليب بارانتيني)، وروعة ممثليه، خاصة الممثل المراهق (أوين كوبر) الذي أدى دور المتهم (جيمي) ببراعة، خاصة وأنه يمثل للمرة الأولى، استطاع المسلسل أن يطرح قصة صبي مراهق (جيمي) متهم بجريمة قتل زميلته(كيتي) إثر تعرضه للتنمر الإلكتروني، وأن يتجاوز المسلسل حدود الإثارة والترفيه بحلقاته الأربع، والتي صورت بكاميرا واحدة، ليصبح قضية رأي عام، تتجاوز الشاشات، لتصل إلى أروقة صناع القرار، ودهاليز التربية والتعليم، خاصة مع تكرار جرائم العنف والتنمر واستخدام الأسلحة البيضاء في المدارس، وفي كل حادثة تشير أصابع الاتهام إلى التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال والمراهقين، ولبعض المواقع الإلكترونية التي تروّج لمفاهيم سامة، أدت إلى انتشار تيارات ثقافية متطرفة بين المراهقين من الجنسين، ، مثل الثقافة الذكورية التي يتبناها بعض المراهقين، ومنهم (جيمي) -بطل المسلسل- والتي يتم التعبير عنها بمصطلح “المانوسفير” Manosphere: الذي يشير إلى مجموعة من المجتمعات الرقمية التي تتشارك وجهات نظر متطرفة حول الرجولة والعلاقات بين الجنسين، و تشمل هذه المجتمعات فئات مثل “الإنسل” وهو اختصار لعبارة Involuntary Celibate: أي “العازب غير الطوعي”، وهي فئة من المراهقين والشباب الذين يشعرون بالفشل في إقامة علاقات عاطفية، وغالبًا ما يعبّرون عن غضبهم في مجتمعات إلكترونية مغلقة تتبنى خطابًا عدائيًا تجاه النساء.

هكذا هو (عالم المراهقة) المعاصر كما جسده صناع لمسلسل، عالم افتراضي يحكمه صناع المحتوى والمؤثرون والرموز التي أصبحت هي اللغة يتحدث بها المراهقون وسط جهل الأسرة والمعلمين بها، مما جعل الفجوة تزداد بين الأجيال، والتي سيراها المشاهد بوضوح متمثلة في أسرة (جيمي)، والمحقق الذي يحاول أن يفسر غموض الجريمة المتهم فيها طفل حسب اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة، والقاضي الذي يحاكم طفل ولكنه متهم بلغة القانون، وحتى الطبيبة النفسية التي بكت من شعورها بالعجز عن فهم واحتواء الطفل بطل هذه المأساة، ليكتشف الجميع أن (جيمي) يتحدث بلغة غير لغتهم، فالجريمة التي ارتكبها (جيمي) ليست في نظره سوى رد فعل على قتله معنويا عبر تنمر إلكتروني، فكأنه يقتص في الواقع لنفسه التي اغتالها التنمر في العالم الرقمي الافتراضي.

لقد فتح المسلسل جرحاً عميقاً غائراً في جسد المجتمعات المعاصرة، وليس المجتمع البريطاني فحسب، ليُعرّي هشاشة المنظومة الأخلاقية في ظل الفضاء الإلكتروني المفتوح على مصراعيه أمام الصغار قبل الكبار؛ فهو لم يكتفِ بتوثيق الجريمة المتهم فيها مراهق لم يتجاوز الثلاثة عشر عاماً، بل يغوص في أعماق النفس البشرية، وأيضا أعماق المجتمع الذي شهد أحداث هذه القضية.

في الحلقة الأولى، لا نرى الجريمة نفسها، بل نعيش ما قبلها: التفاصيل الصغيرة التي يصعب تتبعها، لكنها تزرع بذور الكارثة القادمة. إنه يوضح أن النار تشتعل من مستصغر الشرر. فالصبي المتهم ذكي، لكنه يتسم بالانطواء، ومتابع نهم لمحتوى سام ينشر سم الكراهية ضد النساء في رداء من المنطق الزائف، من أجل ما يُقال إنه «استعادة الرجولة».

في مشهد صامت على الشاشة لكنه عاصف هائج في أعماق نفس بشرية ضعيفة هشة تتمثل في (جيمي) الذي يثبّت نظره على شاشة هاتفه.. لحظة صمت مشحونة، تشبه لحظة الدخول البطيء للسمّ إلى الوريد، وكأنها مسدس كاتم للصوت يقتل أبناءنا، وهنا، يأتي السؤال الحقيقي: متى يبدأ التطرف؟ وهل يمكن أن يبدأ من جهازٍ موضوعٍ على مكتب مراهق في غرفته، بينما يظن والداه أنه يدرس أو يلهو في البيت تحت أعينهم؟ فلا مخدرات ولا علاقات مشبوهة ولا صحبة سيئة، هو في أمان بغرفته!.

في هذا المسلسل، بدأ التطرف الفكري لدى المراهق المتهم من فيديو صغير كان بمثابة عملية (غسيل مخ) له تمت ببراعة عبر الانترنت، وصوت تسلل إلى أعماقه يوهمه أن العالم ضده، وأن النساء سلبن منه رجولته، ويجب عليه أن يستردها!.
إن المسلسل استطاع ببراعة أن يجسّد مدى هشاشة هذا المراهق النفسية والاجتماعية في مرحلة المراهقة التي يواجه فيها الإنسان تغيّرات من كل نوع؛ جسدية ونفسية وغيرها، لنكتشف ما هو أخطر من جريمة القتل نفسها؛ التي لم يرتكبها الطفل المراهق فجأة، بل جاءت نتاج تراكمات وضغوط نفسية واجتماعية عاشها وحده في صمت، بعيداً عن أذن تسمعه أو أيد ترشده.

ما يفعله المسلسل في هذه اللحظة هو ما لا تستطيع الإحصاءات ولا المحاضرات التربوية فعله: إنه يُجسّد القلق، بل ويجعلك تشعر به، من خلال مشهد يستمر طوال الحلقة يجسد تسلل هذا الفكر المتطرف إلى أعماق صبي مراهق أعزل، وكأن هناك صوت يهمس: «انظروا جيداً… هذا ما قد يحدث عندما نغضّ الطرف عما يحدث خلف أبواب حجرات أولادنا وما يحدث لهم ومعهم خلف الشاشات». لم يكن المسلسل، في جوهره يجسد جريمة وقعت فحسب، بل يسلط الضوء على تلك التصدعات الصامتة التي تتخلل نسيج المراهقة في عصرنا هذا. لعلنا ندرك أن التطرف، مهما كان نوعه؛ سواء أكان دينياً أم سياسياً أم إجرامياً أم لعباً في هوية المراهقين، لم يعد مسموعاً، بل يبدأ غالباً بصمتٍ في غرفة مغلقة أو مفتوحة الأبواب تحت ضوء شاشة، وعزلة رقمية مظلمة.

لم يلعب النص الدرامي على «تيمة» أن المراهق المتهم هو الجاني الوحيد في هذه القضية، بل هناك شركاء معه. فهو في حد ذاته ضائع، لا يعرف كيف يواجه هذه النداءات والخطابات التي ترسخ لديه ثقافة الكراهية، والتي تحتويه وهو في وحدته فريسة سهلة. فهو إن كان ضحية نظامٍ ثقافي رقمي يدفعه إلى ارتكاب جريمة في هذا العمر المبكر دون أن يدرك عواقب فعلته، فالشركاء هم الأسرة التي لم تسر معه في هذه الأزقة الرقمية المشبوهة، والنظام التعليمي الذي علّمه كيف يستخدم أزرار هذه الشاشات ولم يوفر له مرجعية فلترة هذه المعلومات، ولا المعلّم الذي يناقش هذه المواقع والمواد التي تبثها.
وهكذا عبّر مؤلف المسلسل(جاك ثورون) حينما قال: «إنّ جايمي لم يكن شريرًا، بل مرآة لجيل ضائع بين غرف مغلقة تتوه فيها المشاعر، وشاشات تتكاثر فيها الأصوات السامة. أراد أن يسلط الضوء على هشاشة الذكورة حين تُصاغ في قوالب ضيقة، وعلى العزلة حين تُضخَّم بخوارزميات لا قلب لها. فبين أبٍ يمسك بمشاعره كما يمسك بيدٍ لا يريد أن يمدّها، وابنٍ يختنق بصمتٍ لم يجد من يمنحه قبلة الحياة، تتجلى في هذا المشهد مأساة الفجوة التي تتسع بين الأجيال، وتُملأ بوهم القوة عوضًا عن الحنان».

لا يقلل المسلسل من عظم الجريمة، لكنه يسلط الضوء على بوادر وإشارات تمهد لتكرار ارتكاب مثلها، ولا يعفي كل المؤسسات المعنية بأمر الطفل من مسؤولياتها، ليصل (جيمي) إلى قاعة المحكمة، وأم يطبق على حنجرتها الصمت وكأنها ترى ابنها للمرة الأولى. فهل يتألم المشاهد من الجريمة أم من بوادرها أم يتألم على الفتاة التي فقدت حياتها أم يشعر بالسخط على الأسرة الذي جاء وعيها متأخراً، أم على الحياة الرقمية التي احتوت أولادنا بدلًا من أحضاننا؟!
ليتضح للأب أنه وإن كان حاضراً بجسده، فقد غاب دوره الحقيقي، وأن الابن كان بعيداً، رغم أنه كان في غرفته، التي ظنت الأسرة أنها حصن الأمان، الذي اتضح أنه ضعيف، وأن حصن الأمان الحقيقي في الحوار والوعي والاحتواء، ومحاولات حثيثة من الأبوين بتثقيف نفسيهما بهذا العالم الافتراضي القاتل، الذي نتجت عنه جرائم بأشكال مختلفة، ونفوس أطفال ومراهقين مشوهة من شدة تأثير هذا العالم الزائف الذي نسف في نفوسهم الرضا بحياتهم، والتطلع إلى عالم الشهرة مهما كان الثمن.

إن «أدوليسانس» ليس صرخة درامية، بل هو دعوة صريحة إلى إعادة النظر في التكنولوجيا، لا كأداة، بل كقوة تستحق أن يعاد تنظيفها وتنظيمها من خلال قوانين، لأنها، ببساطة، تربّي أبناءنا حين ننشغل عنهم، وهذا يضر بأجيال، بل وبلا مبالغة، يمس الأمن القومي للمجتمعات.
إن الأمان الرقمي ضرورة حتمية في هذا العصر الذي أصبح فيه الأطفال والمراهقون أسرى لعالم افتراضي مليء بالتحديات والمخاطر. لا يكفي أن نقتصر على مراقبة ما يتعرض له أبناؤنا من خلال الإنترنت، أو نمنعهم عنه، بل يجب أن نعلّمهم كيف يتعاملون بحذر ووعي مع هذا العالم، ونوجههم لتجنب المحتويات السامة والتفاعلات السلبية. يجب أن نبني لهم شبكة أمان رقمية تحميهم من الانزلاق إلى فخ التطرف والعنف، وتساعدهم في الحفاظ على سلامتهم النفسية والعاطفية، دون أن يفقدوا توازنهم العاطفي أو العقلي وسط هذا الفضاء الواسع الذي يعيشون فيه.

أعتقد أن مسلسل «أدوليسانس» يتجاوز كونه مجرد عمل درامي أثار ضجة وجدلًا، فقد طرح قضايا مهمة حول عواقب التنمر بكافة أشكاله في العالمين الواقعي والرقمي، ومفاهيم الرجولة لدى المراهقين، والخطابات المتبادلة عن كراهية النساء للرجال والرجال للنساء، التي تقضي بالضربة القاضية على الفطرة السليمة والتوازن الطبيعي للكون، وكيفية تأثير هذه الخطابات في حياة الشباب من الجنسين وفي قراراتهم، ونوعية الجرائم التي تتسلل إلى المجتمعات، غربية كانت أم عربية. فجاءت أحداث المسلسل بمثابة تحذير موجه للأسر والمسؤولين عن تربية وتعليم الأطفال، الذين يواجهون تحدياً كبيراً في التعامل مع المراهقين، الذين أصبحوا أسرى لتأثيرات الثقافة الرقمية خلف شاشات، وداخل مواقع أدت الى انتحار أطفال أثناء ألعاب تم إدخالها بواسطة الأهل، وارتكاب جرائم بوازع من أشباح في عالم افتراضي، يتعرض فيه بعض الأطفال والمراهقين من الجنسين للتنمر والتحرش والابتزاز. هذا بالإضافة إلى الأفكار السامة التي تتسلل إلى عقول الأطفال والمراهقين والشباب بنعومة من خلال تلك الشاشات الصغيرة.
إن ما يقدمه مسلسل «أدوليسانس» هو دعوة مجتمعية لفهم أعمق لما يواجه الأجيال الجديدة من تحديات أوجدت حاجة ملحة لإعادة بناء جسر الحوار الذي قد يذيب الجدار بين الآباء والأبناء، إذ لا يكفي أن نراقب عالمهم من بعيد، بل يجب أن نكون جزءًا منه، فالحماية الحقيقية لا تكون في العزلة عنهم، ولا في منع ما يرونه، بل في تهيئة مساحة للتفاهم معهم، والاستماع إلى مشاعرهم وهمومهم، لنعينهم على مواجهة تحديات العصر، كي نصنع معهم ولهم عالمًا أكثر أمانًا وأملًا.

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *