يقظة الذات الأنثوية بين النوم الجماعي واليقظة الفردية : قراءة ذرائعية لقصيدة (المرأة التي لم يوقظها أحد) للشاعرة السورية عائشة البريكات

صورة واتساب بتاريخ 1446 11 16 في 20.26.37 3b97c9d6

يقظة الذات الأنثوية بين النوم الجماعي واليقظة الفردية : قراءة ذرائعية لقصيدة (المرأة التي لم يوقظها أحد) للشاعرة السورية عائشة البريكات

بقلم الناقدة دكتورة/ عبيرخالد يحيي

صورة واتساب بتاريخ 1446 11 16 في 20.27.54 0e300a5c


في هذه القراءة الذرائعية، نتوغل في بنية قصيدة “المرأة التي لم يوقظها أحد” للشاعرة العائشة، لنكشف عن الرحلة العميقة التي تسلكها الذات الأنثوية من أسر الانتظار والخضوع إلى أفق اليقظة والحرية. يتوزع النص عبر مشاهد متدرجة ترسم مسار التحول الداخلي، وتقدم نموذجًا شعريًا يُفعّل في القارئ فعل الإيقاظ ذاته. ومن خلال المستويات الذرائعية المختلفة، سنرصد كيف استطاعت الشاعرة أن تجعل من قصيدتها بيانًا للذات المستقلة، ومرايا متعددة تعكس وجوه المرأة في زمن غارق في الغفلة.
1. البؤرة والخلفية الأخلاقية
البؤرة: في النص ترتكز على تحرر الذات الأنثوية من أسر الآخر (المجتمع، الرجل، التقاليد).
خلفيته الأخلاقية: تقوم على رفض الخضوع وانتظار الاعتراف من الخارج. المرأة في النص تمثل نموذجًا أنثويًا متمرّدًا، يحطّم القوالب الجاهزة، ويبحث عن تحقق داخلي. النص يدفع القارئ إلى مراجعة موقفه من مفاهيم مثل الحب، الانتظار، الخضوع، ويفتح بوابة نحو استقلالية الوجود الأنثوي.
2. المستوى البصري
النص غني جدًا بالصور الشعرية البصرية :
«سجّادة الضوء»، «كتبت اسمي على الماء»، «الريح تسرح شعري»، «جناحي من غيم وريح»
هذه الصور ترسم أمامنا لوحات بصرية شفافة، تلعب على التضاد بين الثقل (الواقع، الانتظار، النوم) والخفّة (الضوء، الماء، الريح، الغيم).
الصورالبصرية في النص تخدم وظيفة ذرائعية: تهيئة القارئ للدخول في مناخات الانفصال عن الواقع الأرضي، وصعود الذات نحو فضاء كوني رحب.
3. المستوى اللساني اللغوي
تتراوح اللغة بين البساطة والرمزية العميقة. نلاحظ:
جمل قصيرة تؤسس للإيقاع («وفي اليوم الأول»، «وفي اليوم الثاني»…)
توظيف أسلوبي لاستفهام بلاغي (كم سأنام؟)
استخدام المجاز والكناية بكثافة (أخلع جلدي وألبس قصيدة حريرية).
النص يتجنب التعقيد اللغوي، لكنه يبني عبر تركيب الجمل المتتالية إيقاعًا طقوسيًا، يعمّق أثر الفعل الشعائري للقصيدة.
4. المستوى الديناميكي
ديناميكية النص تقوم على التدرج الطقوسي، حيث يتغير وضع المرأة من يوم إلى آخر:
من امرأة نائمة على طرف قصيدة —>إلى امرأة تخوض حوارًا مع المرآة والريح والنجوم—>إلى امرأة تخلع جلدها وتلبس قصيدة—> إلى النبوءة—> وتنتهي كـ «حقيقة» مستلقية على بياض الزمن.
الديناميكية هنا صاعدة، تشكل قوسًا دراميًا للتحول الداخلي، وهذا يتوافق مع استراتيجية الذرائعية التي تدرس الفعل الشعري كعملية حركية، لا كجمود لغوي فقط.
5. المستوى النفسي
النص يكشف عن رحلة الذات الأنثوية من الانقسام إلى التوحّد:
في البداية: هي نصف حقيقي ونصف يشبه رجلًا، أي في حالة تشرذم وهشاشة هويّة.
عبر الأيام: تعبر مراحل من الشك والتساؤل والحوار الداخلي.
النهاية: تصل إلى لحظة الاستيقاظ الذاتي، دون الحاجة للآخر.
هذا التدرج النفسي يشكل جوهر التجربة في النص، حيث تمر المرأة من حالة الاعتمادية النفسية إلى الاكتفاء الذاتي الروحي. وهو تحول يُظهر نضجًا وتماسكًا نفسيًا عميقًا.
6. المستوى العميق:
النص يتصف بما يُعرف ذرائعيًا بـ البعد التداولي العالي: أي أنه لا يكتفي بإنتاج المعنى داخل النص، بل يدفع القارئ لإعادة النظر في مفاهيم اجتماعية ونفسية قائمة.
البناء الشعائري المتكرّر (من يوم إلى آخر) يخدم وظيفة ذرائعية: غرس الإيقاع النفسي لدى القارئ، وتحفيزه على عيش تجربة التحول كما تعيشها البطلة.
الصور الشعرية تعمل كوسائط ديناميكية، تربط القارئ بعوالم تتجاوز اليومي، وتدخله في تجربة كونية.
التحول النهائي للمرأة إلى «النبوءة» و«الحقيقة» يُعيد الاعتبار للمرأة كذات قادرة على إنتاج المعنى، لا كمفعول به كما في السرديات التقليدية.
فالنص يعمل كـ طقس شعري لتحرّر الذات الأنثوية، مستخدمًا الصور الكونية، والبنية الشعائرية، والحوار الداخلي، لتحقيق هدف تواصلي عميق: إحداث يقظة وعي عند القارئ، ودعوته للتفكير في الاستقلالية الروحية كوسيلة للتحقق الذاتي، بعيدًا عن سلطة الآخر، سواء كان رجلًا أو مجتمعًا.
ندخل إلى:
التحليل الذرائعي النفسي التطبيقي: وهو المستوى الذي يعنى بكشف الاشتغال اللاشعوري للبنى النفسية داخل النص، مع تتبع كيف تتفاعل هذه البُنى مع القارئ كطرف مشارك.
1. ثنائية الأنا والآخر: منذ السطر الأول، نجد الأنا الأنثوية في وضعية استلقاء سلبي «أنام على طرف قصيدة». هذا يوحي بوضع نفسي هشّ، فيه نوع من الاعتمادية على الآخر.
ومع ذلك، نجدها تكتب اسمها على الماء، أي تقوم بفعل إثبات وجود، لكنه ما زال فعلاً عابرًا وزائلًا (الماء لا يحتفظ بالكتابة).
الرجل، أو “الشبيه بالرجل”، يحضر كـ ظل مهدِّد، لكنه غير مكتمل «نصفه حقيقي ونصفه رجل». هنا يظهر البُعد النفسي العميق: الآخر الذكوري ليس مركزًا ثابتًا، بل هو نفسه هشّ ومجزأ.
فالنص يُفعِّل في القارئ آلية الإسقاط النفسي، حيث يبدأ القارئ بمطابقة تجربة الأنا الأنثوية مع خبراته الخاصة في مواجهة سلطة الآخر، سواء أكان هذا الآخر رجلًا أو سلطة اجتماعية.
2. التحوّل الطقوسي كآلية علاج نفسي
مع كل يوم جديد، تمر الشخصية بـ مراحل تشبه جلسات التحليل النفسي:
تحاور المرآة (مواجهة الذات)
الريح تسرّح شعرها (تحرر من القيود)
«أخلع جلدي» (تفكيك الهوية القديمة)
ألبس قصيدة (إعادة بناء الذات عبر الإبداع)
هذه الخطوات تناظر ما يُعرف في الذرائعية بـ ديناميكية التحول النفسي الداخلي، حيث يتم تفكيك الذات المزيفة وإعادة بناء الذات الأصيلة.
القارئ هنا لا يبقى متلقيًا سلبيًا، بل يُستدرج لا شعوريًا إلى خوض تجربة مشابهة داخل نفسه، عبر آلية المحاكاة النفسية.
3. الرموز الكونية كبُنى لا شعورية
النجوم، المجرة، الريح، الماء، الضوء…
كلها رموز تحمل شحنات لا شعورية قوية:
النجوم: الأمل البعيد، الأمنيات المكبوتة
الريح: القوة المحررة، الفوضى
الماء: الأصل، الولادة الجديدة
الضوء: الوعي والاستنارة
فالنص يوظّف هذه الرموز كمفاتيح لا شعورية، تشتغل في عقل القارئ وتُفعّل ما يسميه الذرائعيون بـ الرصيد الرمزي المُخزَّن، مما يولّد استجابات وجدانية عميقة، دون الحاجة لتفسير مباشر.
4. التحرر من الزمن كآلية شفاء
السؤال «كم سأنام؟» يحمل في خلفيته قلقًا وجوديًا حول الزمن.
في اليوم السادس، تصل إلى الزمن الأبيض، حيث تتلاشى الحدود الزمنية وتستقر الذات كـ «حقيقة».
التحرر من الزمن يُماثل في علم النفس التحرر من القلق الوجودي، وهو أحد أهداف العلاج النفسي العميق.
القارئ، بمتابعة هذه الرحلة، يُحفَّز لا شعوريًا لتجربة الاسترخاء الزمني، أي الخروج من سجن القلق المتعلق بالمستقبل أو الماضي.
5. آلية “التطهير الشعري”
عملية الانتقال من النوم إلى الحقيقة تمرّ عبر مراحل تطهير نفسي:
خلْع الجلد (رمزية التخلص من الأنا القديمة)
لبْس القصيدة (رمزية الولادة عبر الفن)
الاستلقاء على بياض الزمن (رمزية الشفاء النهائي)
وهذه الآليات تتماشى مع نظرية التطهير الأرسطي (Catharsis)، لكن النص هنا يُحدث التطهير عبر بنية شعائرية متكررة، مما يُحدث عند القارئ حالة من التحرر النفسي التدريجي، يشبه التأثير العلاجي لجلسات التأمل أو الطقوس الصوفية.
والخلاصة الذرائعية النفسية: النص لا يشتغل فقط على المستوى الجمالي، بل يُفعِّل آليات لا شعورية عميقة، تعمل على:
تحرير القارئ من قلقه الزمني
تطهيره من توتراته الداخلية
دفعه نحو تفكيك هويته التقليدية وإعادة بنائها
كل ذلك يتم عبر البُنى الرمزية والديناميكية للنص، مما يجعل القصيدة بمثابة طقس شعري علاجي يُحدث أثرًا نفسيًا مُعاشًا، وليس مجرد قراءة فكرية.
ندخل إلى:
التحليل الذرائعي النسوي التطبيقي:
حيث نحلل النص بوصفه أداة مقاومة ناعمة للسلطة الذكورية، وذلك من داخل بنياته الشعرية والصور التي يقدّمها، وفق المنهج الذرائعي الذي يدرس كيف تشتغل المقاومة فعلًا داخل النص، لا فقط هل هي موجودة.
1. بنية الاستيقاظ كفعل مقاومة
العنوان «المرأة التي لم يوقظها أحد» يعلن مباشرةً عن قلب المعادلة:
المرأة هنا ليست موضوعًا يُوقَظ (أي يُفعَّل من الخارج)، بل هي التي تكتشف أنها لا تحتاج إلى إيقاظ من أحد، لأن الجميع «كانوا نيامًا أكثر منها».
فالقصيدة تعكس نقلة نوعية من الأنثى المفعول بها (المُنتظِرة لإيقاظ الرجل/الآخر) إلى الأنثى الفاعلة ذاتيًا، التي تستيقظ لأنها قررت أن ترى، لا لأن أحدًا حرّكها.
هذه النقلة تُفكك بشكل مباشر البنية التقليدية للهيمنة الذكورية، حيث يُنسب الفعل دائمًا للذكر والاستجابة للأنثى.
2. الآخر الذكوري كظل هارب
الرجل في القصيدة ليس حاضرًا حضورًا مُتمكنًا، بل:
«يشبه رجلاً» (شبيه، ليس أصيلًا)
«يصطاد ظلّه» (منشغل بنفسه، غير قادر على التواصل)
يقول: «أُجيد الغياب» (يُعلن عجزه لا قدرته)
هنا تُزال القداسة عن الذكورة، ويُكشف ضعفها وارتباكها. الرجل في هذه القصيدة لا يستطيع أن يقوم بالدور الذي نصّبتْهُ له الثقافة الأبوية (المنقذ، المُوقِظ، المُخلِّص)، بل يتحول إلى رمز للغياب والفشل.
المرأة إذن لا تعود تابعة له، بل تصبح مَن يُقصيه ويمنحه الجناح كي يطير بعيدًا.
3. إعادة هندسة الجسد الأنثوي
الأنا الأنثوية تقوم بـ:
نزع جلدها
ارتداء قصيدة
محاورة وجهها في المرآة
هذه الصور تشكِّل مشروعًا شعريًا لهندسة الجسد الأنثوي الجديد، حيث:
الجسد لم يعد ميدانًا للسيطرة الذكورية (كما هو في الثقافة الأبوية)
بل يصبح مساحة رمزية للتعبير والخلق (لبس القصيدة بدلاً من الجلد التقليدي)
هنا تتحرر الأنثى من كونها جسدًا «ينتظر اللمس» أو «يُنسى حين يمر الضوء»، وتتحول إلى كائن شعري منتِج للمعنى بذاته.
4. الكون حليف الأنثى لا سجنها
النجوم، الغيم، الريح، الضوء، كلها تتفاعل مع المرأة بوصفها شريكة لهم، لا بوصفها هامشية.
النجوم تهمس لها بحقيقتها
الريح تهمس لا تأمر
الغيم يَعِدُ لا يُملي
فالنص هنا يُعيد تموضع المرأة ضمن علاقة كونية متوازنة، حيث الكواكب والرياح ليست قوى قاهرة، بل أصوات صديقة. وهذا يكسر تقليدًا عميقًا في الشعر العربي، حيث الطبيعة غالبًا ما كانت مرآة لهواجس الرجل العاشق (مثال: المطر، الريح، الليل…)، بينما هنا تصبح الطبيعة امتدادًا لذات المرأة الحرة.
5. اليقظة الأنثوية كفعل جمعي لا فردي
في المقطع الأخير:
المرأة تكتشف أن «الذين لم يوقظوها» كانوا هم أنفسهم أكثر سباتًا منها.
وهذا التصريح يُحوِّل تجربة الاستيقاظ من مجرد فعل شخصي إلى إدانة جماعية لثقافة ذكورية نائمة:
السلطة الذكورية ليست فاعلة، بل تعيش على خرافة يقظتها.
والأنثى التي تستيقظ، تكتشف فراغ هذا الادعاء.
وهذا يُنتج للقارئ (رجلًا كان أم امرأة) لحظة صدام مع بنيته النفسية:
هل هو جزء من النيام؟
أم سيستيقظ مع البطلة الأنثى التي لم تعد تنتظر الإيقاظ الخارجي؟
بهذا التحليل، تؤسس القصيدة بُنية سردية وشعرية تقلب القيم الأبوية التقليدية:
الرجل يتحوّل من المُوقظ إلى الغائب
المرأة تنتقل من المُستيقَظة إلى التي تستيقظ ذاتيًا
الجسد الأنثوي يُعاد تعريفه كمنطقة إنتاج شعري، لا موضوع استهلاك جسدي
الكون يتحوّل من سلطة ذكورية إلى شبكة دعم رمزية للأنثى الصاعدة
وهكذا يصبح النص ليس مجرد قصيدة عن «المرأة التي لم يوقظها أحد»، بل بيانًا شعريًا نسويًا ذرائعيًا يُمارس مقاومة ناعمة داخل بنية اللغة، ليُحدث أثرًا نفسيًا وثقافيًا في القارئ.
نصل إلى الخاتمة الذرائعية الشاملة، حيث ندمج بين المستويات الثلاثة:
النفسية (السيكولوجية)
النسوية (تفكيك السلطة الذكورية)
الجمالية البنائية (كيف اشتغلت القصيدة لتُحدث فعلها في القارئ)
أولًا: على المستوى النفسي (البؤرة السيكولوجية)
القصيدة تقوم على رحلة يقظة داخلية، حيث تتحرر البطلة الشعرية من وهم الآخر وتنتقل إلى مرحلة الاعتراف بالذات كقوة مركزية.
كل مقطع يمثل طبقة أعمق من النفس:
في البداية، البطلة بين النوم والحلم (اللاوعي)، تبحث عن إشارات خارجية (الرجل، المرآة، الغيم).
تدريجيًا، تستبدل هذه الإشارات بمرجعيتها الذاتية: الريح، النجوم، الطفلة التي بداخلها.
في النهاية، تصل إلى وعي حاد بأن العالم نائم أكثر منها، وأن استيقاظها هو إعلان القطيعة مع هذا العالم الكسول.
الدلالة الذرائعية:
هذا الانتقال من الخارج إلى الداخل يمثل عملية تحوّل سيكولوجي حادة، تجعل القارئ يعيش نفس التجربة، فيُحدث النص أثرًا نفسيًا مزدوجًا:
زلزلة قناعات القارئ عن معنى «الاستيقاظ».
إيقاظ الأنا العميقة فيه لمساءلة ذاتها.
ثانيًا: على المستوى النسوي (تفكيك السلطة)
النص يُفكك بشكل دقيق أساطير السيطرة الذكورية، لا عبر الهجوم الصريح، بل عبر:
إقصاء الرجل بوصفه غير كفء (الرجل لا يوقظ، بل يغيب، ويصطاد ظلّه).
إعادة بناء الأنثى ككيان مكتفٍ بذاته (تُعيد ترتيب ملامحها، تخلع جلدها، ترتدي القصيدة).
كسر الثنائية الذكورية (المرأة كمنتصِرة/منهزمة، الجميلة/القبيحة، المستيقظة/النائمة)، وتقديم هوية أنثوية ثالثة: المرأة التي لا يُقاس يقظها بمعايير الآخرين.
الدلالة الذرائعية:
النص يعمل بوصفه مقاومة ناعمة لكنها عميقة، تخلخل البنى المتجذرة في عقل القارئ عن «الأنثى» و«الذكر» و«العلاقة». يمنح الأنثى هوية شعرية-كونية، لا تتوسل الآخر ليمنحها الاعتراف.
ثالثًا: على المستوى الجمالي (البنية الشعرية والأثر)
القصيدة مبنية على تصعيد شعري تدريجي:
تبدأ من الصور البسيطة (النافذة، الغيم، المرآة)
ثم تنتقل إلى الرموز الميتافيزيقية (النجوم، الريح، الطفلة الداخلية)
وتُتوَّج بصور تأسيسية (كتابة الاسم على الماء، نزع الجلد، الكهف الداخلي)
هذا التصعيد يُحدث في القارئ أثرًا تراكميًا:
في البداية، يتلقى القارئ القصيدة بوصفها سردًا شعريًا ذاتيًا.
لكنه يجد نفسه يُستدرج إلى رحلة وعي ميتافيزيقية تجعله يعيد تعريف نفسه، كما تعيد البطلة تعريف ذاتها.
الدلالة الذرائعية:
البنية الشعرية نفسها ليست فقط وعاءً للمعنى، بل هي أداة الفعل.
النص يعمل كآلة تأثير: يُحدث قلقًا، ثم دهشة، ثم اعترافًا داخليًا عند القارئ.
الخلاصة :
القصيدة «المرأة التي لم يوقظها أحد» ليست فقط نصًا شعريًا:
إنها أداة إيقاظ جماعية:
توقظ الأنثى من انتظارها الأزلي للآخر
وتوقظ القارئ من خدره أمام الصور التقليدية للأنوثة والرجولة
وتوقظ الشعر ذاته من تكرار البنى الموروثة، بتقديمه بنية تصعيدية تُحدث الفعل لا تقوله فقط.
بالمنهج الذرائعي: النص يُحقِّق الذرائعية الكاملة: حيث تتكامل الدلالة (محتوى مقاوم)، والأداة (البنية الشعرية التصعيدية)، والأثر (الاستفزاز واليقظة في القارئ).
وهذا يجعله نصًا ناجزًا من حيث وظيفته الثقافية والاجتماعية، لا مجرد نص جمالي.

7. دراسة التجربة الإبداعية
الشاعرة هنا تستخدم استراتيجية التجريب في الشعر، عبر:
بناء طقوسي مقسم على الأيام الستة، يُحاكي قصص الخلق الكبرى.
دمج رموز كونية (النجوم، المجرة، الريح) برموز أنثوية (المرآة، أحمر الشفاه).
الابتعاد عن الغنائية الكلاسيكية، لصالح قصيدة تقوم على التأمل الذاتي والحوار الداخلي.
من الناحية الذرائعية، الشاعرة تراهن على إيقاظ وعي القارئ، لا على منحه إجابات. وهذا يتفق مع مبادئ الذرائعية التي ترى أن النص الإبداعي وظيفة تواصلية-تفاعلية تفتح أبواب التأويل.
في الختام:
لنص يحقق ذرائعية مكتملة: يجمع بين البعد الجمالي (التصعيد الشعري)، والبعد السيكولوجي (اليقظة الداخلية)، والبعد الاجتماعي (تفكيك السلطة الذكورية)
الأسلوب التصعيدي على مدار الأيام الستة ناجح جدًا في إحكام قبضته على القارئ.
القوة الكبرى في النص تكمن في قدرته على إحداث فعل إيقاظ لدى القارئ، كما يحدث للبطلة.
هذا النص ليس مجرد قصيدة، بل هو مشروع يقظة، يندرج ضمن الأدب الفاعل الذي لا يكتفي بوصف العالم، بل يعمل على تغييره بدءًا من نفس القارئ.
وهذا النص يصلح ليكون مرجعية في تحليل الشعر النسوي الحداثي العربي.
النص الشعري:
المرأة التي لم يوقظها أحد
١-
في المرة الأولى التي لم يوقظني فيها أحد
كنتُ نائمةً على طرف قصيدة
نصفها حقيقي و الآخر
يشبه رجلاً كان يحدّق فيّ
كأنني فكرة لم تكتمل.

استيقظتُ على صوت النافذة،
لا أحد خلف الزجاج،
فقط غيمٌ ثقيل
يقرأ لي نشرة الأحوال العاطفية.
سألتُ المرآة:
“هل ما زال وجهي صالحًا للحنين؟
أم أنني أصبحتُ امرأةً
ينساها الضوء حين يمرُّ؟”
ضحكت المرآة،
وسقط من وجهي زمنٌ كامل
كنتُ أضعه كأحمر شفاهٍ
وأبتسم.

٢-
في المرة الثانية،
لم أكن نائمة،
كنتُ غابةً تُغني،
وصوتي يعلو كأن أورنينا استعارت حنجرتي
لتمدّ النهار بخرافةٍ جديدة.

لم يوقظني أحد،
لكنّ النجوم اقتربت من سريري
وقالت لي:
“لو كنتِ أقلّ دهشةً
لأحبّكِ الناس،
لكنهم لا يتحمّلون امرأةً
تفوح منها رائحة المجرّات.”

نهضتُ ومشيتُ حافيةً فوق سجّادة الضوء،
كنت أبحث عن رجلي الذي وعدني الغيمُ به،
ذاك الذي يعرف كيف يُوقظ امرأةً
بأن يُصدّق قصّتها
قبل أن تُروى.

٣-
في اليوم الثالث
أعدتُ ترتيب ملامحي
كما تفعل الآلهة حين تشعر بالملل من خلودها،
نزعتُ جلدي القديم
وارتديتُ قصيدةً حريرية
تُشبهني أكثر.
لم يطرق أحد بابي،
لكن الريح كانت تهمس لي:
“من اعتادت أن تستيقظ على صوت ذاتها
لن يُجيد أحد إيقاظها بعد الآن.”
فأعددتُ فنجان قهوةٍ من عمرٍ فائت،
وجلستُ على شرفةٍ لا تطلّ إلا على قلبي،
أراقب امرأةً تمشي داخلي
كأنها لا تعرفني.

٤-
في اليوم الرابع
كتبتُ اسمي على الماء
كي أنسى كيف تُمحى النساء في ذاكرة العشّاق.
رأيتُ رجلاً
يصطاد ظلّه من بركةٍ بعيني،
سألته:
“هل تُجيد إنقاذ امرأةٍ غَرقت من شدّة ارتفاعها؟”
فقال:
“أُجيد الغياب.”

فأهديته جناحي،
وقلتُ له:
“طر، لكن لا تعد إليّ
إلا إذا عرفت كيف تُوقظ امرأة
ولدت من الحلم
ولا تنام.”

٥-
في اليوم الخامس
دخلتُ كهفًا في روحي
لم تدخله كائنات الحبّ بعد.

جلستُ بين ركام القصائد
التي كتبتُها قبل أن أُولد،
وسمعتُ طفلةً تشبهني
تقول لي:
“لا تنتظري أحدًا،
أنتِ النبوءة التي خذلتها الكتب
لأنها لم تفهم لغتها.”

٦ –
في اليوم السادس
لم أكتب،
لم أتكلم،
لم أرتّب الفوضى فوق رأسي.

فقط تمدّدتُ على بياض الوقت
كما تتمدّد الحقيقة حين لا تجد مَن يُصدّقها،
واسترجعتُ كل الأيادي
التي مرّت بي
دون أن تلامسني حقًا.

فهمتُ – أخيرًا –
أنني المرأةُ التي لم يوقظها أحد
لأنهم كانوا نيامًا أكثر منها،
ولأنها حين استيقظت
لم تجد بشرًا
بل أناشيد مقطّعة
وأحلامًا تُجيد التمثيل
لكنها لا تحفظ النص.
العائشة

مقالات أخرى

رحلة معرفة وعلم وعمل

بقلم الأستاذة الدكتورة/ رضوى إبراهيم

تفاهاتي

بقلم الأديبة المصرية/ هناء سليمان

علاقة مميزة

بقلم الأديبة المصرية/ نهى عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *